Friday 26 August 2016

شخصيات من الكتاب المقدس إبراهيم وصداقة الله العميقة

إبراهيم

إبراهيم وصداقة الله العميقة

كان إبراهيم غنياً جداً في المواشي والفضة والذهب، كان من أغنى أغنياء عصره، ولو عاش في عصرنا هذا لكان من أصحاب الملايين،.. ولكن أحداً لا يعرف إبراهيم بثروته وغناه، لقد كان إبراهيم غنياً في شيء أعظم من كل ثروة أرضية،.. كان غنياً في العلاقة بالله، والصداقة مع الله، حتى دعي خليل الله، ولعل هذه الصداقة العميقة قد ظهرت في أكثر من صورة ومظهر!!.

التعبد لله..

كان إبراهيم يشرب من نهر الشركة العميقة مع الله،.. لم نسمع أنه بنى بيتاً يسكن فيه، بل كان ينصب خيمته حيثما حل، وينقضها كلما ارتحل،.. ولكنه في كل مكان كان يبني مذبحه، ويقدم ذبيحته، ويقترب إلى الله العلي في خوف وخشوع وجلال،.. وفي بيت إيل بنى المذبح ودعا باسم الرب، وعند بلوطات ممرا حيث انتقل إلى هناك بنى مذبحاً للرب، وعند غرس شجر الأثل في بئر سبع دعا هناك باسم الرب الإله السرمدي،.. كان الدين عند إبراهيم ليس أكثر أو أقل من الصداقة القوية العميقة مع الله، وكان الله له الخل الوفي في السراء أو الضراء كما يقولون، وعلى حد سواء.. أجل لم يسر قط في رحلته بعيداً عن صحبة الله، ومشورة الله، ومعونة الله، وشركة الله، أو في لغة أخرى أنه لم يسر الطريق وحيداً منفرداً بل سار في معية الله، وحمايته، وقوته، وعونه، وشدته،.. ومع أنه في مصر، وفي جرار، جرب بالخوف من فرعون وأبيمالك، من جهة سارة امرأته، لكن صديقه العظيم لم يتركه في المحنة والتجربة والضعف، بل وآزره على النحو الكريم الطيب المعروف من إله لا يصنع معنا حسب خطايانا أو يجازينا حسب آثامنا لأنه يعلم أننا تراب،.. وقد دنا منه إبراهيم وتكلم، وهو يعلم! "شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد"‎.. ومع هذا كله كانت عظمة الصداقة الإلهية تظهر في ألوانها المتعددة في حياة من دعاه الله "إبراهيم خليلي".. كانت حياة دكتور ج.ر. ميلر تتمثل في جملة واحدة "المسيح وأنا صديقان" وكل من عرف هذا القديس الكريم كان يعلم أن هذه العبارة تلخص حياته أجمل تلخيص،.. وقد كتب دكتور ميلر ذات مرة إلى صديق يقول له: "إن ما أود أن أعينك على فهمه أن تدرك أن المسيح أصدق وأفضل صديق، وأنك كمسيحي لابد أن تكون صديق المسيح، وأنك إذ تقبل حبه، وتدعه يدخل قلبك وأعماقك، لابد أن تبادله حباً بحب، فالديانة عندما نركزها في كلمة واحدة، نجدها لا تزيد عن القول: أنا والمسيح صديقان".. وليست الصلاة له، إلا بمثابة الحديث مع أرق صديق، وأحن صديق، وأحب صديق، كما يمكن أن تكلم أي صديق مخلص لك على هذه الأرض‎!!

وعندما تتحقق أنك والمسيح صديقان مرتبطان متلاقيان، فستجده معينك ومخلصك، وتضحى الصلاة أمامه لا واجباً أو عبئاً يقع عليك بل لذة ونشوة تتمتع بها، كما تمتعت الفتاة القديمة مريم عندما جلست عند قدميه، واختارت النصيب الصالح الذي لا يمكن أن ينزع منها!!..".. في كتاب "قصة حياة جندي" للورد ويلسلي، دعا هذا الكاتب الجنرال جوردون: "صديق الله" وقال عنه: "كان جوردون ينكر نفسه تماماً في كل ما يفعل، وكان يهتم فقط بما يعتقد أنه عمل الله، إذ كانت الحياة عنده سياحة المسيحي بين السنين المبكرة من رجولته، والسماء التي وصل إليها، وكان دائماً ممتلئاً بالشوق والحنين إليها،.. وكان فكره الأول في أي مشكلة تواجهه،: ماذا كان يفعل يسوع لو كان في محلي؟!!.. هذا الاعتماد الكلي على خالقه، وهذا الاتصال الروحي بمخلصه، في مجريات الحياة اليومية، هو الذي أعانه على نسيان نفسه، وعدم القلق والانشغال بما قد يأتي به الغد".. كان جوردون واحداً من أبناء إبراهيم الذي ساروا على الدرب الطويل، درب الشركة المتعبدة المتعمقة مع الله!!..

التشفع لدى الله

والمظهر الثاني للصداقة المتعمقة بين إبراهيم والله، نراه في روح التشفع، قبل أن يشعل الله النار والكبريت في سدوم وعمورة ومدن الدائرة… وفي التشفع نرى الله والإنسان يسيران معاً، ونرى أروع صور الشركة بين الخالق والمخلوق، وبين المحب والحبيب، ولعله من اللازم أن نلاحظ أن العلاقة بين إبراهيم والله كانت تبدأ دائماً بالله، إذ أن إبراهم لم يتشفع لسدوم، إلا لأن الله كشف له مصيرها: "فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض لأني عرفته كي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا براً وعدلاً لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به".. والله في العادة هو الذي يبدأ بالكلام، ويكشف النقاب ويسر بالحديث، لأن سر الرب لخائفيه وعهده لتعليمهم، "أعطاني السيد الرب لسان المتعلمين لأعرف أن أغيث المعيي بكلمة. يوقظ كل صباح. يوقظ لي أذناً لأسمع كالمتعلمين. السيد الرب فتح لي أذناً وأنا لم أعاند إلى الوراء لم أرتد".. وجيد للمؤمن أن يتعلم فن الاستماع، وفن المخاطبة،.. ومن المحقق أن الصديق المتعمق في الشركة مع الله، هو الذي يجهز أذنه ويقول: تكلم فإن عبدك سامع،.. إذ ما أكثر الذين يكلمون الله بكثيراً، دون أن ينصتوا إليه ويسمعوه،.. لكن إبراهيم كان يحسن الإنصات، ويحسن أيضاً الكلام والحديث مع سيده وخالقه ومحبه وصديقه،.. وفي التشفع من أجل سدوم وعمورة، كان إبراهيم خيراً من يونان، فمع أنه من صالح إبراهيم ونسله أن تزال مدن الدائرة من الوجود لكي لا تكون عثرة وعبءً في المستقبل على نسله العتيد أن يرث الأرض،.. إلا أنه مع ذلك تحدث إلى الله من أجل إنقاذها، وهو يكشف لنا عن روح سامية وعظيمة. وترتفع فوق كل خبث ولؤم وأثرة وأنانية، تجاه الصديق أو العدو على حد سواء، ومن أجل ذلك ألح إبراهيم بلجاجة من أجل المدن الشريرة الخاطئة، التي صعد صراخها القبيح المزعج أمام الله في السماء، والتي كان من الممكن لو عاشت أن تكون شوكاً وقاداً للشعب المختار،.. إن مبدأ الشفاعة عند إبراهيم يبدأ بالحب والحنو والصفاء ورغبة الخير لجميع الناس، مهما فكروا، ومهما أضمروا، ومهما كانت نواياهم في الحاضر أو المستقبل خيراً أو شراً على حد سواء،.. لأن ديان الأرض في أية حال من الأحوال لابد أن يصنع عدلاً!!.. ومن يحفر حفرة لابد أن يقع فيها!!.. ذلك هو القضاء العظيم لإله ساهر قدوس حي لا يعجز أو يضعف أو يموت!!..

إن شفاعة الأحياء للأحياء أمر لابد منه، وحسن ومقبول عند الله: "فأطلب أول كل شيء أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب لكي نقضي حياة هادئة مطمئنة في كل تقوى ووقار لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون"..

ووقت هذه الشفاعة كما نلاحظ، قبل أن تمس النار المدينة، وحيث هناك فرصة أخيرة للأحياء فيها، ولا نعرف إبراهيم ينطق بكلمة واحدة، في صباح اليوم التالي وما بكر في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون!!.. ولا نعرف أن أنظاره تعلقت في أرض الخراب، إلا بابن أخيه،: "وحدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم وأرسل لوطاً من وسط الانقلاب حين قلب المدن التي سكن فيها لوط".. وربما يعن لنا مع ذلك السؤال: هل ضاعت المدن بسبب شرها الرهيب المخيف، أم بسبب آخر هو أن إبراهيم توقف في شفاعته عند حدود العشرة الأبرار الذين كان يظن أنهم موجودون بها، دون أن يوجدوا؟.. وهل لو أنزل العدد إلى حدود ثلاثة أو أربعة أما كان من المتوقع أن تنجو المدينة من أجل الثلاثة أو الأربعة؟!! على أي حال لقد نجا لوط بفضل صلاة إبراهيم، وما أعظم وأقوى ما تفعل صلاة التشفع أمام الله من أجل الخطاة وهم أحياء!!.. أما بعد ذلك فكل صلوات القديسين على الأرض لا يمكن أن تخرج خاطئاً واحداً كما قال هو فيما بعد لواحد من أبنائه بالجسد عندما صرخ إليه: "يا أبي إبراهيم ارحمني وارسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب. فقال إبراهيم يا بني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا والآن هو يأتي وأنت تتعذب وفوق هذا كله بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت حتى أن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا"..

النجاح في الامتحان أمام الله

كان إبراهيم أب الناجحين في متواليات من امتحان الصداقة أمام الله، ولعل أشهر هذه الامتحانات، امتحان الغربة، والمال، والزمن، والابن، وهي امتحانات إنسان أخذ طريقه صعداً من سهول أور الكلدانيين إلى جبل المريا، حيث كان هناك امتحانه الأقسى والأعظم، والحقيقة أن النجاح في الامتحان الأول، كان يتلوه إلى الامتحان التالي والأصعب، فإذا فاز في هذا الأخير، فإن معنى ذلك أن الثالث سيكون أدق وأشق،.. إلى أن ينتهي إلى أعظم امتحان يواجه بشرياً في الامتحان الأخير والأعلى،.. والحقيقة أن فلسفة الامتحان أمام الله تعني كشف الإنسان لنفسه، وكشفها أمام الآخرين، وكشفها أولاً وأخيراً أمام الله،.. ولا شبهة في أن الله يعلم من البداءة النتيجة النهائية لكل امتحان،.. ولكنه يسر بكل يقين أن يبلغ الإنسان مدى ضعفه أو قوته، ومدى سقوطه أو صموده، وبذا يصبح الامتحان مرآة يرى فيها وجهه الحقيقي، وصورته الصحيحة،.. ولا يقصر الأمر على المرء نفسه، بل تتحول قصته عظة وعبرة للآخرين من معاصريه أو من أجيال متعددة تأتي بعده، ويصبح الامتحان مقياساً أو ميزاناً أو نموذجاً أو معياراً للامتحانات المشابهة للآخرين!!.. كما أن الامتحان أمام الله ينقل القصد الإلهي المضمر في الغيب إلى حقيقة اختبارية ملموسة لصاحبها، يصبح بعدها من يقع عليه الامتحان شريكاً في المعرفة مع الله،.. أو كما قال لإبراهيم: "لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني"،..

وعلى أي حال فإن إبراهيم قد نجح نجاحاً عظيماً في هذه الامتحانات جميعاً حتى بلغ قمة النجاح فوق جبل المريا،.. لقد أخذه الله أولاً إلى الغربة البعيدة ليعزله عن الوطن والأهل والأصحاب والأحباء، وسار به إلى حاران حتى مات أبوه هناك، وهو يقصد بذلك أن ينفض عنه كل تراب يلحق به من كل تراث الماضي والحياة الوثنية القديمة،.. والذين ضربوا في مناكب الأرض بعيدين عن أهلهم وعشائرهم وبيوتهم التي يودعونها إلى غير رجعة يعلمون كم هو قاسي مرض الحنين إلى الوطن، والذهاب إلى ما يشبه المنفى أو السبي في أرض غريبة،.. ولكن إبراهيم اجتاز الامتحان بنجاح وهو يدلف في رحلته البعيدة إلى أرض الغربة!!.. ونجح إبراهيم في الامتحان الثاني الذي سقط فيه لوط أمام المال، ولا يظن أحد أن كثرة المال تعلم صاحبها القناعة، بل على العكس تزيده ظمأ، كمن يشرب من مياه البحر المالح ليزداد عطشاً،.. ولكن إبراهيم نجح وهو يعشر المال أمام ملكي صادق، وهو يرفض عرض ملك سدوم، وهو يرفض أن يختار اختيار لوط،.. ونجح إبراهيم أكثر من ذلك أمام الزمن، وكان أبا للصابرين، ومن المحقق أنه لو لم تلح عليه سارة لما أخذ هاجر جاريته زوجة له،.. وظل إبراهيم سنوات طويلة متعددة دون كلل أو ملل، ينتظر تحقيق الوعد الإلهي العتيد أو كما يقول كاتب الرسالة إلى العبرانين: "وهكذا إذ تأنى نال الموعد".. وما أكثر الذين سقطوا أمام امتحان الزمن، وكانوا على قيد خطوات من نهاية شوطهم العظيم.. ومن ثم جاءت صيحة الرسول يعقوب: "خذوا يا إخوتي مثالاً لاحتمال المشقات والأناة الأنبياء الذين تكلموا باسم الرب. ها نحن نطوب الصابرين، قد سمعتم بصبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف".. على أن أعلى امتحان وقف فيه بشري أمام الرب، هو الامتحان الذي طلب فيه الله من إبراهيم أن يقدم ابنه اسحق،.. ولعله من اللازم أن نوضح باديء ذي بدء، أن الطلب وإن كان في حد ذاته غريباً، ولا يمكن أن يستساغ بمجرد الفهم البشري، خاصة وأن تقدمة الذبيحة البشرية كانت عملاً من الأعمال الوثنية التي كان يتقرب بها الوثنين من آلهتهم،.. وكانت شيئاً قبيحاً ومرفوضاً أمام الله الحي الحقيقي، وكان إبراهيم على ثقة من هذا كله،.. لكن إبراهيم أقدم على التقدمة، لأنه لم يكن عنده شبهة في أن الصوت الذي جاءه كان صوت الله، ولا يمكن أن يكون ظناً أو خيالاً أو وسوسة أو وهما أو ترجيحاً. لقد كان صوت الله واضحاً له، كوضوح شخصيته هو، أو وضوح ارتباط الصوت بشخص اسحق ابنه الوحيد الحبيب،.. وعندما وصل إلى هذه النقطة، كان عليه أن يعطي الجواب الحاسم القاطع، أيهما أحب إليه: الله أم اسحق ابنه؟ وأيهما يلزم أن يطيع: النداء الأعلى أم نداء القلب الصارخ في أعماقه؟!!.. ولقد وصل إبراهيم فوق جبل المريا إلى القمة والذروة في التسليم الإلهي الكامل غير المشروط،.. كان الله لا يريد منه ذبيحة بشرية، لكنه كان يريد أن يذبح إبراهيم أغلى ما يمكن أن يكون عنده في الموازنة مع صداقته ومحبته لله، وقد شرب إبراهيم عميقاً من الشركة حتى أنه لا يتردد أن يذبح بيديه هو اسحق أو مائة اسحق يمكن أن تكون عنده ولديه،.. على أن الصديق الأعظم منعه من التقدمة والذبيحة، لا لأنه اكتشف وكشف لإبراهيم عمق الرابطة الحبيبة بينهما، بل لأن هناك سبباً أعظم بما لا يقاس من كل هذه.. أن اسحق ليس هو الذبيح على جبل المريا أو أن إبراهيم هو الأب الذي يقدم ابنه، بل أن هناك شيئاً يومض أمام عيني إبراهيم ويلمع،.. شيئاً سيأتي بعد ألفي عام، من ابن أعظم، وأب أعظم،.. شيئاً سيمسك فيه الآب السماوي بابنه على هضبة الجلجثة، ويقدمه الذبيح الأوحد، كبش الفداء الذي أبصره إبراهيم ممسكاً بقرنيه في الغابة، وقدمه عوضاً عن ابنه اسحق.. وكما استسلم اسحق استسلامه الوديع لسكين أبيه، استسلم الابن العظيم لصليب الجلجثة وهو يقول: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" وكما ذبح المسيح على هضبة الجلجثة كحمل الله الذي يرفع خطية العالم،.. كان هناك أيضاً الألم الأعمق في قلب الآب، الألم الذي كان ألم إبراهيم وهو يرفع سكينه تجاه عنق ابنه لا يمكن أن يقارن به أو يعد شيئاً مذكوراً إلى جواره،.. وهذا هو المعنى الذي قصده المسيح وهو يتكلم إلى اليهود قائلاً: "أبوكم إبراهيم تهلل إذ رأى يومي وفرح".. كان يوم المريا رمزاً إلى يوم المسيح، وكان كبش الفداء المذبوح رمزاً إلى صليب الجلجثة،.. وكما ظهرت ومضة عجيبة في ابن عجيب سيأتي ويحمل على نفسه فداء البشر، ويحل محل اسحق، وكانت هذه الومضة ولا شك نوراً إلهياً، ومضى أمام عيني إبراهيم، وأشاع البهجة والفرح في قلبه، فتهلل لفادي نفسه، وفادي ابنه، وفادي المخلصين في جميع أرجاء الأرض،.. وهكذا رأى إبراهيم بالنبوة مسيح الجلجثة فوق جبل المريا!!

خدمة الله

والمظهر الأخير في الصداقة بين إبراهيم والله، هو الرسالة التي حملها إبراهيم على كتفيه من قبل الله تجاه هذا العالم. ولعل كلمات مرقس دودز هي خير ما يقال هنا على الإطلاق عندما قال: "لقد افتتح الله بإبراهيم فصلاً جديداً في تاريخ الجنس البشري، فصلاً على أعظم جانب من الأهمية، فالنتائج التي تركتها رحلة إبراهيم وإيمانه لا حدود لها وأبدية، لقد آثر هذا الرجل في كل الأجيال المتعاقبة بعده، مع ما في حياته من البساطة الملحوظة، وخلوها مما يؤثر في معاصريه، وبين كل الملايين المنسية من أبناء عصره، يقف هو وحده شخصية خالدة بارزة، وإن كانت لا تحيط به جحافل القوى المسلحة، أو تحف باسمه الأملاك الواسعة التخم، أو التشريعات الجديدة، أو حتى أي عمل من أعمال الأدب والفن، لم تكن الأهمية في حياته عسكرية أو تشريعية أو أدبية بل دينية.. فمن المؤكد أن عقيدة الوحدانية قد أذيعت عن طريقه، فمن يومه إلى الآن الذي يظهر وجوده وطبيعته بالتجاوب مع هذا الإيمان، هذا الإيمان الذي جعله إبراهيم الأساس الرئيسي لرحلاته وأفكاره هو بعينه الذي منحه التأثير الأبدي العظيم!!.." لقد كان إبراهيم خليلاً وصديقاً عميقاً لله في رسالته وخدمته الكبرى التي أنيط بها بين الناس على هذه الأرض!!..

إبراهيم وصداقة الله المباركة

وهذا آخر ما ننتهي به في هذه الصداقة العظيمة المباركة بين إبراهيم والله.. لقد أعطى الله إبراهيم سبعة وعود مباركة يمكن أن نراها بمثابة سبع درجات لسلم البركة التي صعد عليها هذا الرجل العظيم. وقف الرجل في اليوم الأول من العام، على باب العام الجديد،.. وقال للواقف على الباب كما تخيلت كاتبة إنجليزية: أعطني نوراً كي أستطيع أن أسير في الطريق. وجاءه الجواب: ضع يدك في يد الله وسر في الظلمة فهي خير لك من الضوء، وأدعي إلى الطمأنينة من كل طريق مضاء".. ومن اليوم الأول الذي خرج فيه إبراهيم من أور الكلدانيين إلى آخر حياته على الأرض، وضع يده في يد الله، وسار وهو لا يعلم إلى أين يأتي، فجاءته البركة العظيمة السباعية، ولقد بدأت "بالكثرة" "فأجعلك أمة عظيمة"، وكان ذلك تعويضاً له عن العزلة التي سيعانيها، والأمة التي سيخلفها وراءه، ويستبدلها بأمة كنجوم السماء في الكثرة، وكالرمل الذي على شاطيء البحر الذي لا يعد،.. ثم "البركة" "وأباركك" لأن الكثرة وحدها قد تصبح لعنة وتعاسة وشقاء، إن لم تكن مصحوبة ببركة الله في كل شيء، البركة التي ستحقق خيره وتوفيقه وسعادته في الأرض التي يتجه إليها.. ثم "العظمة": "وأعظم اسمك".. والبركة لابد أن تحقق له العظمة الحقيقية، بل هي التي تفرق بين العظمة الصحيحة والعظمة الكاذبة "الوقتية الجوفاء.. ثم: "الخير".. وتكون بركة".. أو في لغة أخرى إن عظمة إبراهيم ليست كالبئر الآسنة تحتوي على مائها في جوفها العميق، بل هي النهر المتدفق الذي يرسل خيره ونعمه للآخرين، وقد جرى هذا الخير –وما يزال يجري- إلى آخر الدهر في الذين ساروا في طريق إبراهيم.. ثم "السعادة" "وأبارك مباركيك"، وكل من يصير صديقاً يقف إلى جانب الحق والخير، لابد أن تناله بركات القدير،.. وهكذا تطرح البركة الإلهية سعادتها وبهجتها وفرحها، على من تمتليء قلوبهم حباً وحناناً على عمل الله وشعب الله، وأبناء الله في هذه الأرض.. ثم الضمان الإلهي: "ولاعنك ألعنه".. إذ يزيل الله من الطريق كل من يقف ضد هذا الخليل العظيم الذي اصطفاه الله ليكون صديقه المحبوب العزيز المبارك، ثم "النعمة الغامرة".. "وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض، وهي قمة البركة في حياة الرجل العظيم، وهي التي فيها يطل بنسله المبارك "يسوع المسيح" على العالم كله والتاريخ والأجيال والأبدية بأكملها!!.. هذه السباعية الكاملة، أو هذا السلم العظيم سلم البركة، هو الذي ربط بالصداقة الأبدية بين أبي المؤمنين والله، وهو الذي أعطاه هذا اللقب المجيد الخالد..: "ودعى إبراهيم خليل الله"..

التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Post a Comment

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
;