بقي لنا، بعد أن حاولنا مجابهة الإلحاد الماركسي بالإيمان المسيحي الأصيل من جهة، وبالتصورات التي كثيراً ما يكوّنها المسيحيون عن إيمانهم من جهة أخرى، أن نصل إلى نتيجة قد تمهد للحوار بين الماركسيون وبيننا.
من مآخذنا على الماركسية ذلك التمييز الجذري ذو الطابع المانوي الذي تجعله بين عالم الخير – ألا وهو بنظرها البروليتاريا – وعالم الشر، الذي هو بنظرها البورجوازية وكل ما توحد، بقرار منها، بين البورجوازية وبينه من دين وفلسفة وعلم وفن…. إننا، معشر المسيحيون، كثيراً ما نسقط في المانوية عينها فننسب الإيمان لأنفسنا والإلحاد لغيرنا، ولكن هذا الموقف ليس صادراً عن أصالة الإيمان. فالإيمان يعلمنا أن الحد الفاصل بينه وبين الإلحاد لا يمر بين فئة وفئة من الناس، إنما يمر في صميم القلب البشري. فالمؤمن في صراع مستمر ضد عدم الإيمان الكامن في نفسه لأنه مجرب في كل لحظو أن يخلط عوض أن يحول تلك التصورات والرغائب بنور الله تصوراته ورغائبه الذاتية عوض أن يحول تلك التصورات والرغائب بنور الله وقوته، لذا فالمؤمن إذا لم يكن سطحياً يردد دائماً مع أبي الصبي المريض في الإنجيل: “أؤمن يا رب، فأعن عدم إيماني”. لقد كتب غبريال مارسيل: “إننا في آن واحد نؤمن ولا نؤمن، نحب ولا نحب، نوجد ولا نوجد، ولكن ذلك ناتج عن كوننا سائرين نحو هدف نراه ولا نراه”. أما الملحد فغالباً ما لا يكون ملحداً إلى النهاية لأن رفضه لله غالباً ما يكون سعياً إلى إله حقيقي مجهول من خلال رفض تصورات صنمية زائفة. لذا كتب الفيلسوف المعاصر هـ. دومري: “كثيراً ما لا يرفض المرء هذا أو ذاك التصور عن الله إلا بتأكيده ضمناً أن الله يبقى متجاوزاً كل تصور. لذا أن يجد الإنسان الله لن يعني أبداً سوى أن يتابع السعي إليه متجاوزاً ما وجده. هكذا فحوار الملحد والمؤمن بالله حوار لا نهاية له…. قد يعبد الله إنسان يتعبد بالحقيقة لذاته. وقد يرفض الله إنسان يتجاوز بالفعل ذاته إليه دون كلل….”
هذا يعني أن الحوار بين المؤمن والملحد، إن عنى شيئاً، فإنه يعني أن يعيد كل منهما النظر في موقفه الكياني على ضوء موقف الآخر. فالمؤمن من جهته عليه أن يقبل تحدي الملحد ليمحص على ضوء هذا التحدي نوعية إيمانه فينقيه باستمرار من التصورات البشرية التي تشوبه وتحجب الله لتقيم عوضه أصناماً. المؤمن يتعلم من الملحد أن يرفض الأصنام، ولو سميت باسم الله، ليعود إلى أصالة إيمانه حسب تعليم الرسول يوحنا: “يا أولادي احفظوا أنفسكم من الأصنام” (1يوحنا 5: 21).
إنه يأخذ عن الملحد كل ما هو إيجابي في إلحاده، لأن الإيمان الأصيل يفترض إلحاداً، إلحاداً بالأصنام التي توجدها أهواء الإنسان دون انقطاع، لأن الإنسان، وهو بطبيعته متجه إلى المطلق، تلك هي عظمته، مجرب دوماً بأن يلصق بهذا المطلق صور أهوائه، هذا هو ضعفه. الإنسان يحس بتعالي الله فيرتاع ويجزع وكثيراً ما يؤول به هذا الجزع إلى أن يحاول إزالة الفارق الشاسع بين الله وبينه وذلك بإحدار الله إلى مستوى تصورات وأهواء الإنسان. هذا ما نراه صراحة عند الأقدمين إذ أن إلههم ديونيسيوس كان سكيراً وإلههم جوبيتر زانياً. تجاه ذلك الموقف الوثني، كان لا بد للبشارة المسيحية أن تبدو إلحاداً لأن مناداتها بالإله الواحد كانت تعني في الصميم مناداة بالإله الوحيد أي الذي لا شبيه له ولا مثيل، الذي ليس على شبه البشر، على حد قوله تعالى في أشعيا: “بمن تشبهونني وتعادلونني وبمن تمثلونني فنتشابه” (أشعيا 46: 5)، ولكنه بالعكس يدعوهم لمحبته إلى التشبه به. وقد قبلت المسيحية آنذاك تهمة الإلحاد ولكنها أعطتها معناها الإيجابي، فكتب الفيلسوف الشهيد يوستينوس في القرن الثاني في دفاعه عن المسيحية: “إنهم يدعوننا ملحدين. نعم، نحن نقر بذلك. إننا ملحدون بتلك الآلهة المزعومة، ولكننا نؤمن بالإله الحقيقي”.
مسيحيو اليوم، إن شاءوا أن يكونوا هم أيضاً أمناء للإله الحقيقي الحي وليس لتصوراتهم وأهوائهم، عليهم أن يأخذوا عنماركس إلحاده بالإله الطاغية، بالإله الذي يضمن الظلم، بالإله الذي يدعو الناس إلى الجبن والهروب، بالإله الذي يسر بعجز الإنسان وجهله؛ تلك الآلهة لا بد أن نرفضها كما رفضنا ديونيسيوس وجوبيتر وأفروديت، كما رفضنا إله الحرب مارس وإله السرقة مركور.
ولكن الحوار يفترض أيضاً أن يعيد الملحد النظر في موقفه، فيقلع عن الخلط بين الإله المتعالي عن كل تصور وبين نظرتنا البشرية إليه التي وإن تنقت على ضوء الإعلان الإلهي والحياة الروحية، تبقى ناقصة ونسبية. يقول مثل ألماني “لا يجب أن يلقى بالطفل مع الماء الذي غسل به”. هكذا يمكن للملحد، إذا شاء، أن يميز تلك الشعلة الإلهية التي قد تختفي إلى حد ما وراء تصورات دينية زائفة. يقول الأب دي لوباك في هذا الموضوع: “إن الترداد الآلي والرياء والخرافات والمواقف الصبيانية والرتابة قد تؤلف ثلاثة أرباع أو أكثر مما يقوله الناس أو يفكرون به عن الله، في عبادتهم وصلاتهم. ولكن ينبغي أن نحترس من أحكام الازدراء التي أشد ما تعينا، فإن هذه النفاية الهائلة لا يجب أن تخفي عنا البريق الصغير الذي يلمع في عمق النفس… والذي نراه أحياناً يرتفع شعلة مستقيمة، نقية”.
لذا فكما أن المؤمن عليه أن يقبل تحدي الملحد ليفحص على ضوئه إذا كان بالفعل يعبد الله “بالروح والحق” (يوحنا 4: 23، 24)، ينبغي على الملحد أن يقبل تحدي المؤمن، المؤمن الذي يحاول أن يكون أصيلاً في إيمانه، ليتساءل إذا كان إلحاده خالياً من خطر الكسل الروحي والتفتيش عن الراحة الرخيصة، إذا لم يكن وراء انغلاق دون كل ما يتجاوز الإنسان، إن لم يكن فيه شيء من التعبد الصنمي للإنسان.
ولكن المطلوب منا، نحن المسيحين، هو ليس أن نفحص قلوب الملحدين، بل قلوبنا نحن ونقر بمسؤولية المسيحية التاريخية ومسؤوليتنا نحن في الحاد الآخرين. يقول بردياييف: “على المسيحيين أن يقروا بقسطهم من المسؤولية في تقلص المسيحية في العالم. لقد اتخذت مسيحيتهم أشكالاً كان لا بد لها أن تثير المعارضة. لقد أخذ الناس ينبذون القيم الروحية ويستعيضون عنها بغيرها لأن تلك القيم كثيراً ما استعملت لتبرير الظلم والعبودية… إن الحقيقة المسيحية هي بأن نأخذ على أنفسنا مسؤولية عذابات البشر. إن الإلحاد السائد في العالم ليس فقط موضوع عثرة ودينونة من قبل المسيحيين، إنه أيضاً وبالأحرى ظرف جيد لنتوب عن خطيئتنا. قد يكون أحياناً الإلحاد المتألم مرضياً في نظر الله أكثر من عبادة كلها اكتفائية يؤديها عبيد”.
ولكن التوبة بمعناها المسيحي تقتضي ليس فقط الأسف على بدر منا فيما مضى لكن وبالأحرى تغيير ذهنيتنا كلها حسب مدلول العبارة اليونانية metanoia التي وردت في الإنجيل للدلالة على التوبة. إنها تعني اتخاذ مواقف جديدة، مواقف لا بد لها أن تترجم إلى عمل حسب قول الإنجيل: “اصنعوا أثماراً تليق بالتوبة” (متى 3: 8). ومن تلك المواقف الجديدة التي لا بد منها لنعيش المسيحية في أصالتها، موقف ضروري إذا شئنا أن نجعل الحوار ممكناً مع الماركسيين، وهو الذي عبر عنه بردياييف بقوله إن على المسيحية أن تصبح، في آن واحد وبمعنيين مختلفين، أقل جماعة اجتماعية وأكثر اجتماعية، فقد كتب بهذا الموضوع: “إن اتخاذ الدين شكل المجتمع الراهن، كان أحد أسباب الإلحاد في العالم. إن تكيف المسيحية مع البنية الاجتماعية والقوى المسيطرة فيها كان، في مجرى التاريخ، مشوهاً لها مثيراً للحقد عليها. نتيجة أن تصبح المسيحية أقل اجتماعية بالمعنى السيء لهذه العبارة أي أن تتحرر أكثر حتى لا يعود بالإمكان أن تحدد بالنسبة إلى بيئة اجتماعية معينة. ولكن هناك مظهر آخر. فالمسيحية يجب أن تصبح أكثر اجتماعية أي أن تعلن، أكثر مما فعلت، الحقيقة التي عندها عن المجتمع البشـري….”.
إنه لمخز فعلاً كون تصرفات صادرة عن المسيحيين قد أدت إلى محاربة المسيحية باسم كرامة الإنسان والحرية والعدالة والاخاء وهي قيم أدخلتها المسيحية إلى العالم، بإقرار الماركسيين أنفسهم. لقد ذكرنا آنفاً قول بردياييف: “إن فكرة إخاء البشر والشعوب فكرة ملازمة للمسيحية في شكلها النقي. إن الحركات الاشتراكية والشيوعية أخذت عن المسيحية فكرة مجتمع أخوي. ولكن المسيحية، في مجرى التاريخ، تلوثت بمصالح الطبقات المسيطرة، فاتخذت لون المجتمعات الاقطاعية أو البورجوازية وقدست أبغض الأيديولوجيات القومية…”.
وهكذا حُولت، وهي الموقظ الأكبر، إلى ذلك “الأفيون للشعب” الذي رآه فيها ماركس. والجدير بالذكر أن ذلك الحكم المرير لم يصدر عن ماركس وحده أو عن غيره من الملحدين كنيتشه، ولكنه صدر عن مسيحي مخلص كان معاصراً لماركس. إن المفكر الملحد هنري لوغير يخبرنا أن أحد معاصري ماركس، وهو شارلس كينغسلاي، كاهن الملكة فيكتوريا وأحد كبار الاكليريكيين الانكليكان، خاطب الاكليروس الإنكليزي بعبارات لا تقل شدة عن عبارة ماركس، قائلاً لهم: “لقد استخدمنا التوارة كأنها كتاب الدركي، كأنها جرعة أفيون تعطى للبهائم حتى لا تكبو فيما تحمل فوق طاقتها، كمجرد أداة لجعل الفقراء يستكينون”. لذا فعلى المسيحيين أن يعودوا فيتبنون، على الصعيد الاجتماعي، تلك القيم النابعة عن إيمانهم: “ليس شأن المسيحية أن تخاف الحركات الاجتماعية في العالم وأن تحاربها محاربة عقيمة، بل أت تلهم تلك الحركات وأن تحاول انقاذها من السموم التي تتسرب إليها، من سم الحقد”. هذا الموقف الإيجابي، البناء، هو بنظر بردياييف الموقف المسيحي الأصيل تجاه الشيوعية التي يعتبرها الحدث الأهم في العالم المعاصر. يعتقد بردياييف أن اتخاذ المسيحيين موقفاً سلبياً محضاً تجاه الشيوعية من شأنه فقط أن يخدم الفاشية وهي بنظره مضادة للمسيحية أكثر من الشيوعية بكثير. ويضيف قائلاً: “يجب الاتجاه نحو تحويل داخلي للشيوعية. هذا التحويل ممكن، إنه يتم تدريجياً…”.
ولكن كيف يمكن للمسيحين أن يسعوا إلى ذلك التحويل؟ إذا التزموا قضايا الأرض والتفاني اللذين يقتضيهما إيمانهم. يقول الفيلسوف المسيحي المعاصر جاو لاكروا: “تخدير الضمير بالرثاء للوضع العمالي، ومحاربة الشيوعية مادياً مع الاكتفاء بحكم معنوي على الرأسمالية، هذا هو تحديد الفريسية اليوم”. ولكن الكثيرين من المسيحيين اليوم قد نبذوا تلك الفريسية وتجاوزوها، وذلك بالعودة إلى الإنجيل، فالتزموا قضية الإنسان إلى أبعد الحدود وتصدوا للظلم أياً كان شكله. والأمثلة على ذلك كثيرة وبليغة، أكتفي بذكر بعضها. ففي فرنسا كان المسيحيون في طليعة من قاوم الحرب الاستعمارية في الجزائر واحتج على الظلم والتعذيب اللذين ألحقا بالجزائريين. ويقف الأساقفة الفرنسيون مواقف صريحة جريئة إلى جانب حقوق الطبقة العاملة حتى أنه في مطلع 1966 شوهد مطران طولون سائراً في طليعة المظاهرة التي قام بها نحو 2800 عامل بحري كانوا مهددين بالتسريح. ومن منا لا يعرف جهود الأب لوبريه، مؤسس الايرفد، ذلك الكاهن الذي كان في طليعة من ساهموا، بأبحاثهم الاقتصادية والاجتماعية، في رفع مستوى المعيشة في البلاد التي في طور النمو، حتى أن جريدة “الأنوار” اللبنانية كتبت أن بوفاته انطفأت شعلة من أجمل الشعل التي أنارت حتى الآن عدداً كبيراً من البلاد والشعوب دون تمييز في العرق أو الدين. وفي الولايات المتحدة نرى المسيحيين من كافة الكنائس يلتزمون قضية المساواة العنصرية برصانة كلية، فيشترك رجال الاكليروس الآتون من خمسين ولاية أمريكية بسير الزنوج على مونغومري عاصمة ولاية الاباما، وتشترك الراهبات في المظاهرة بوفرة ويتعرضن لشتائم قذرة. ويغتال في الولاية نفسها كاهن أبيض من الكنيسة الأسقفية ويجرح إلى جانبه كاهن آخر كاثوليكي بعد أن سجنا لاشتراكهما في مظاهرات للمطالبة بالمساواة العنصري. ويقتل قسيس بروتستانتي في مدينة كليفلند فيما كان يحاول إيقاف جرافة كانت تمهد لناء مدرسة مخصصة للبيض وحدهم. وفي افريقيا الجنوبية يعارض رجال من الاكليروس المسيحي بجرأة التفريق العنصري الذي يكرسه دستور تلك البلاد، كما فعل مثلاً رئيس أساقفة دوربان الكاثوليكي. ويطرد بعضهم من البلاد بسبب شهادتهم هذه. وفي اسبانيا يجاهد أعضاء الحركات العمالية المسيحية في سبيل العدالة الاجتماعية وحرية النقابات متعرضين لمقاومة الأوساط الرسمية وأصحاب العمل. وفي البرازيل أوقف مطران ناتال بناء كاتدرائية لتخصص نفقاتها لبناء مدينة عمالية، مطبقاً هكذا وصية يوحنا الذهبي الفم: “فلا تزين الكنائس إن كان ذلك لإهمال أخيل في الشدة. هذا الهيكل أكثر جلال من ذاك” (العظة الخامسة على إنجيل متى). وفي تلك البلاد عينها التزام مسيحي واسع وعميق لقضية العدالة الاجتماعية. فحركة التربية الأساسية M. E. B.، هي حركة مسيحية، قامت بنشاط مرموق لا في مكافحة الأمية وحسب بل في التوعية الاجتماعية في أوساط الشعب حتى أن كراسها “الحياة نضال” أثار ضجة كبرى وحورب من الحاكمين بالنظر لمواقفه التقدمية. ويقف عدد من الأساقفة، خاصة في المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد وهي منطقة بائسة محرومة، موقفاً جريئاً جداً من القضايا الاجتماعية، وفي طليعتهم أسقف ريسيف، هيلدر كامارا. وقد حملت الصحف لنا نباً اصطدام هذا الأسقف وغير بالسلطات العسكرية لأنهم يصرحون بان “بعض مظاهر النظام القائم تشكل أعمال عنف حقيقية لا يمكن للكنيسة أن تبقى صامتة أمامها”. وإلى جانب الأساقفة تقف الحركات المسيحية للعلمانيين هناك مواقف ملتزمة، وقد صرح هربرت جوزيه دي سوزا رئيس الشبيبة الجامعية الكاثوليكية في البرازيل: “لا يسعنا أن نقبل بالنظرية التي تفصل الطاهرين والمختارين عن الذين يعيشون في “عالم” الشر والفساد. هذا الموقف يفترض انعزال الصالحين للمحافظة على نقاوتهم. العالم هو المجازفة التي يجب على الصالحين، وعليهم بنوع خاص، أن يدخلوا فيها. لا يخرج المرء من العالم دون أن يخون البشر. لذا كان جوابنا الالتزام. نحن لا نؤمن بأن السعادة الأبدية تتحقق في المدينة الزمنية لأننا سوف لا نجدها إلا في رؤية المطلق، ولكننا سنعمل كل ما بوسعنا حتى يكون هذا العالم أداة لإسعاد كل الناس. لا داعي للهرب من الاقتصاد، ومن العلوم الطبيعية، من الحملات الانتخابية، من الثورات. إننا نتجنب امتناع الصالحين لأننا نعلم أننا مسؤولون عن حياة اخوتنا”.
إن وقائع كهذه من شأنها أن تبين للماركسيين أن المسيحية في أصالتها ليس تخديراً وخنوعاً وهروباً. وأن إلهها ليس مبررً للرقاد والاستكانة بل داعياً إلى يقظة دائمة وجهاد لا حد له. إن الماركسيين، وهم يحتكمون إلى التاريخ، قد بنوا موقفهم من الدين من خلال مواقف تاريخية خان بها المسيحيون مقتضيات إيمانهم، ولهذا فالمواقف التاريخية التي ذكرنا نماذج عنها أعلاه من شأنها أن تدعوهم إلى أعادة النظر في مفهومهم للدين. أضف إليها ما يجري في البلاد ذات الحكم الشيوعي من ثبات المؤمنين في إيمانهم مع اخلاصهم للنظام وعملهم على بناء المجتمع الاشتراكي بنشاط، ولنا مثل على ذلك فيما نشرته الصحيفة الشيوعية كومسومو لسكايا برافدا في 9 كانون الأول 1961، إذ يصف لنا مندوب هذه الصحيفة في إحدى مدن سيبيريا عالمة في الباطون تنتج مائة وستين بالمائة مما عينه التصميم كمعدل انتاج ولكنها تذهب إلى الكنيسة البعيدة عشرة كيلومترات عن مكان سكنها، وقد أضافت الصحيفة أن لا أحداً يضايقها على ممارستها الدينية هذه بسبب عملها النموذجي.
قلنا إن كل ذلك من شأنه أن يحدو بالماركسيين إلى تبديل نظرتهم إلى الدين. ولكن هل هذا التبديل حاصل بالفعل؟ إننا لم نر له أثراً ذا شان في البلاد ذات الحكم الشيوعي، ولكننا نرى بوادره تتجلى بشكل واضح في الأحزاب الشيوعية القائمة في أوروبا الغربية. فقد انتقدت هذه الأحزاب بشدة تقرير ايليتشيف. وصرح الزعيم السابق للحزب الشيوعي الإيطالي بالمير توغلياتي في خطاب ألقاه في برغام: “فيما يتعلق بنمو الوجدان الديني، لا نقبل بالنظرية الساذجة والمغلوطة التي بموجبها يكفي تقدم المعرفة وتبديل البنية الاجتماعية لإحداث تغييرات جذرية في ذاك الوجدان. إن هذه النظرية الناتجة عن فلسفة الأنوار ومادية القرن الثامن عشر لم تصمد أمام تجربة التاريخ. إن جذور الدين أعمق”. وقد صرح الأستاذ روجيه غارودي، أحد النظرين الكبار في الحزب الشيوعي الفرنسي، أن التعليم الماركسي القائل بأن الدين حاجز دون تقدم البشرية يجب إعادة النظر به. ويقول المفكر نفسه، إن الشيوعيين اضطروا “أن يطرحوا بروح عصرنا مشكلة طبيعة الواقع الديني ودوره، وذلك بتأثير “التغييرات التي حدثت في الوجدان المسيحي في زمننا”، تلك التغييرات التي أظهر المجمع الفاتيكاني الثاني مداها، وبتأثير “الدور الذي لعبه الدين، وخاصة الدين الإسلامين في حركات التحرر الوطني”. وقد ذهب أحد قادة الحزب الشيوعي الإيطالي، سلفاتوري دي ماركو، من باليرمو، إلى أبعد من هذا. فإنه صرح في كتاب عنوانه Dialogo alla prova ضم مقالات لخمس من الكاثوليك وخمس من الماركسيين، أنه ينبغي تجاوز النظرة الماركسية إلى الدين كفقدان الإنسان لذاته لصالح جوهر وهمي. ويعتقد دي ماركو أن على الماركسية أن تكون فكرة جديدة عن التعالي، وأن تدرك أنه إذا كان لموقفها من القضية الدينية ما يبرره أثناء الصراع من أجل بناء الاشتراكية، إلا أنه في اليوم الذي سيحرر المجتمع الاشتراكي الإنسان، ستطرح مسألة الحياة الداخلية في الإنسان، وبالتالي مسألة الإيمان الديني، بكل أهميتها وببعدها الأصيل. إن موقفاً كهذا، الذي ينفرد به اليوم دي ماركو، بادرة طيبة تبشر بإمكانية حوار مع الماركسيين.
هذا الحوار أمر تظهر ضرورته بحدة اليوم، حيث إنسانية الإنسان مهددة بالضياع في عالم تجتاحه غرباً وشرقاً سيطرة التكنولوجيا، في “مجتمع استهلاك” يسوده ويخنقه حب الرفاهية. كان هذا الخطر الذي يهدد الإنسانية محور اهتمام اللقاء الذي تم بين ماركسيين ومسيحيين في الربيع الماضي في جنيف، وقد كتب الأب جورج خضر أحد المشتركين في هذا اللقاء: “كان هاجس المؤتمر البحث عن التعاون العملي الممكن بين الفريقين لتكون وسائل الإنتاج والتقنية أكثر إنسانية. هل تضخم العمل وسيطرة التكنولوجيا يأخذان من إنسانية الإنسان؟ الهم المشترك ألا يفنى الإنسان فيما يصنع، إن يبقى على صورة الله، أو، في لغة أخرى، أن يحقق إنسانيته”.
بعض الماركسيين أخذوا يرون اليوم أن المسيحية في أصالتها ضمانة لحفظ المعنى الإنساني للوجود. هذا ما شهد به الأستاذ جورج كازاليس، الأستاذ في كلية اللاهوت البروتستنتية في باريس، وهو أحد المهتمين بالحوار مع الماركسيين. قال: “هناك تمييز يدركه عدد متكاثر من الملحدين الواعين، وينبغي للمسيحيين أن يساعدوهم على اقامته. هذا التمييز يمكن تلخيصه بهذا العنوان لبردياييف: “كرامة المسيحية وعدم جدارة المسيحيين”. إن ألد أعداء المسيحية التاريخية يعرفون إن في المسيحية حقيقةً وعمقاً. إنهم يفتشون، هم أيضاً، عن تلك الحقيقة وذلك العمق.
“عندما يجدون مسيحيين مجردين من عناصر السلطة ومن شهوة التسلط، كما هي حال عدد من المسيحيين في كل أنحاء عالم اليوم، يرغبون بأن يدخلوا في حوار معهم لأنهم يفتشون هم أيضاً عن مبررات وجود أفضل من الحياة نفسها”.
“إن عدداً من المسيحيين يمكنهم أن يشهدوا عن أحاديث طويلة جرت بينهم وبين ماركسيين كانوا يريدون أن يعرفوا ويفهموا خاصة ما المعنى الوجودي، أي الحاضر، لغفران الخطايا، أو ماذا يعني، وجودياً أيضاً، رجاء الحياة بعد الموت. كيف يمكن التحرر من الشعور بالإثم في الوجود؟ كيف يمكنني أن أحيا وأعمل دون أن تشلني فكرة الموت؟”
“يمكنني أن أستشهد بالكلمات التي قالها لي شيوعي تشيكي شديد الوعي لأخطار الانتقال من المجتمع الثوري إلى مجتمع الاستهلاك: “في النهاية، أنتم ونحن لنا ذات الأعداد، وهم الأناس الذين تسحرهم الرفاهية المادية… أحياناً تتوصل دعايتنا إلى فصل امرئ من الكنيسة. ولكنه، في أحسن الحالات، يتمركز في هذا البين بين الأيديولوجي حيث يتسابق الناس نحو التقدم المادي. لقد كان الأفضل له أن يبقى عندكم، لأنه كان احتفظ إذ ذاك بمبرر لوجوده….”.
لقد خلطت الماركسية بين الإله الحقيقي وبين صنم رهيب هو من صنع تصورات البشر وأهوائهم، فرفضت الله باسم الإنسان، ولكن رفضها هذا جعل جهادها المرير، والبطولي أحياناً، من أجل الإنسان، مشوباً باحتقار وبتر للإنسان. لقد كان لماركس الفضل العظيم باكتشاف البعد الاقتصادي في الإنسان ومدى تأثيره على النشاطات الإنسانية قاطبة. إنه لفت انتباهنا “إلى كون الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها جماهير من البشر، اخوتنا، تحول دون بلوغ حياة لائقة بجوهرهم كأشخاص إنسانيين، وأن محبة القريب تفرض علينا بالتالي أن نعمل كل ما بوسعنا لتأمين الشروط التي تجعل ممارسة الحرية ممكنة لك أحد”.
وقد كتب الأب جورج خضر بهذا الصدد: “كان فضل ماركس علينا أنه كشف لنا الإنسان الاقتصادي وذكرنا، بالتالي، بقول بولس إن الإنسان الحيواني كان أولاً ثم الروحاني. أحياناً نتغنى بقول السيد “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” تغنياً فريسياً. هذا كان جواب جهاد رفض به المعلم أن يخضع لخداع الشهوة. هذه جملة يتدرب الإنسان عليها لكي يتخطى دائماً الجسد والمنظورات جميعاً. ولكن إذا كانت قضية الخبز مادية عندما أريد الخبر لنفسي، فهي قضية روحية إذا تعاطيتها من أجل الآخرين. الإنسان الاقتصادي أولاً، لا في سلم القيم بالطبع، بل من حيث رعاية البشر. أما كان هذا نهج المسيح عندما رفع عينيه بقرب من بحر طبرية ورأى جمعاً كثيراً مقبلاً إليه، فقال لفيلبس: “من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء؟” (يوحنا 6: 4، 5). هذا الذي لم تكن مملكته من هذا العالم، كان مدركاً أن هذا العالم وذال لا يقومان إلا على المحبة. بعدها يأتي التعليم، ويأتي قاسياً، ولذلك، بعد أن شبعوا من الخبز الذي أعطوه قال لهم: “اعملوا لا للطعام الفاني بل للطعام الباقي، للحياة الأبدية” (يوحنا 6: 27)”. ولكن رفض ماركس لله جعله يحصر الإنسان في بعده الاقتصادي ويحرمه من ذلك البعد الروحي الذي هو وحده أساس كرامة الإنسان الفائقة ودعوته الفريدة. لذا ليس بإمكان الثورة الماركسية أن تبلغ ملء الهدف الذي من أجله قامت، ألا وهو تحقيق ملء إنسانية الإنسان. لا بل نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول: لا شيء في الماركسية يضمن أن تحافظ الثورة على انطلاقتها الأولى والهامها الأصلي، “ويمكن للثورة أن تتبرجز…. وهذا يبدو لأول وهلة أمراً محتوماً إذا اعتبرنا أن النزعة إلى بذل أقل مجهود ممكن ناموس شامل، وأن ناموس فقدان الطاقة ليس صحيحاً على مستوى العلوم الفيزيائية وحسب… إن الثورة كلمة: فإذا شاءت أن تكون ثورية بالحقيقة وباستمرار، يجب أن تكون دائمة وأن تجدد بلا انقطاع قفزتها. لذا ينبغي لنا أن نتجذر في مبدأ يفوق الإنسان اطلاقاً، فالإنسان، بصورة طبيعية، أي بداعي طبيعيته، يتعب، ينهار، يتبرجز، يخدر ضميره، يرى أن كل شيء على ما يرام لأنه هو على ما يرام”. إن الثورة الشيوعية لم تنج من خطر البرجزة هذا، والستالينية مثلاً شاهد كبير على ذلك. وقد ذكر ثلاثة من المفكرين المسيحين زملاء هم الماركسيين بتلك الحقيقة في الأسبوع السادس للفكر الماركسي الذي نظم في باريس سنة 1967. فقد تصدى القس جورج كازاليس، الأستاذ في كلية اللاهوت البروتستنتية في باريس والسيد جورج مونتارون مدير جريدة Ternoignage Chretien والسيد روبير دي مونفالون، مدير مجلة Terre entiere، لبعض مظاهر الشيوعية الحالية باسم المبادئ الإنسانية التي قامت الثورة عليها، فنددوا بالطابع المحافظ الذي تتصف به بعض الأنظمة الشيوعية وباضطهاد تلك الأنظمة للمفكرين وخاصة بالممالأة القائمة بين البلاد المتقدمة تقنياً من شيوعية ورأسمالية على حساب العالم الثالث. وقد أثير موضوع الأخطار التي تهدد الثورة في لقاء جنيف المذكور آنفاً بين ماركسيين ومسيحيين حيث أدرك جميع المؤتمرين أن “الحكم مفسد عادة” وأن “الثوريين ليس قديسين” وتساءلوا “كيف يمكن ألا يهترئ الحكم، ألا يهبط أخلاقياً”. وقد اتضح نتيجة للبحث أن “الإنسان لا يضمن نجاح ثورة أو قداستها”. إن الماركسية، برفضها الله، ترفض ذاك الذي هو الينبوع الحقيقي لكل ما هو عدل وحق وخير في كل انتفاضة ثورية، لذاك الذي يستمد منه الثوري، من حيث يدري أو لا يدري، كل ما في انطلاقته من اقدام وجدّة، وتحرر واخلاص وحب. من الله يستمد الإنسان القدرة على تحطيم كل قيد، ليس القيود الخارجية وحسب، إنما القيود الداخلية التي هي في الأعماق مصدر كل عبودية. الله إذاً ينبوع الثورة الحقيقية الشاملة الدائمة اليت لا تزعزع الأوضاع الجائرة فحسب، إنما تقتلع من القلب جذور تلك الأوضاع. لذا فرفض الماركسية لله يعني بتر الثورة بفصلها عن مصدرها الحقيقي وبالتالي تعريضها للهبوط والانحراف. بهذا المعنى كتب الأب جورج خضر: “الأساسي في خلافنا مع الماركسية ليس أنها ثورية، بل على العكس، لأنها ليس ثورية كفاية. التبدل البشري العميق هو في ظهور الخليقة الجديدة التي تحدث عنها الكتاب العزيز…. على هدى هذا التعليم فقط لا يتحول الثوري إلى بيروقراطي أو انتهازي أو بورجوازي من نوع جديد. المشكلة ليست في أن نحذر الثورة الاجتماعية، ولكننا نخشى سطحيتها بتحويلها إلى بورجوازية يكون لها الطابع الاستثماري للبورجوازية البائدة…”.
أما المسيحية، التي زرعت في التاريخ بذور الثورة على كل ظلم واستعباد، فهي قادرة أن تعطي للثورة كل أبعادها لأنها تنادي بالله عاملاً مع الإنسان في التاريخ ليتجلى هذا التاريخ وينعتق الإنسان لا من العبودية الاقتصادية والاجتماعية وحسب بل من عبودية الشر العزلة والموت. بهذا المعنى يقول مونييه أن المسيحية “رجاء الثورة”. ولكن هذا يعني أن يتحرر المسيحيون من تصوراتهم الصنمية عن الله وأن يعودوا إلى الإله الحي فينالون منه طاقة الخلق وشجاعة المجازفة. هذا يعني، بالنسبة للمسيحية، كما كتب مونيية سنة 1944، “أن ترفع الشراع الكبير على السارية الكبرى وأن تخرج من المرافئ التي استكانت فيها، متجهة نحو أبعد النجوم، في آبهة الليل الذي يحيط بها”.
مسابقات فى المجامع المسيحية المقدسة مسابقات مسيحية فى تاريخ الكنيسة , مسابقات اعدادى فى تاريخ الكنيسة , مسابقات ثانوى فى تاريخ الكنيسة مسابقات للشباب مسابقات فى المجامع المسيحية المقدسة مسابقات مسيحية فى تاريخ الكنيسة , مسابقات اعدادى فى تاريخ الكنيسة , مسابقات ثانوى فى تاريخ الكنيسة مسابقات للشباب مسابقات فى المجامع المسيحية المقدسة مسابقات مسيحية فى تاريخ الكنيسة , مسابقات اعدادى فى تاريخ الكنيسة , مسابقات ثانوى فى تاريخ الكنيسة مسابقات للشباب
الأسئلة :
اذكر عدد المجامع المسكونية التى تعترف بها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية و اين انعقدوا ؟
,قناة الطريق الفضائية بث مباشر ,بث حى قناة الطريق المسيحية ,قناة الطريق ترانيم ,قناة الطريق المسيحية تردد ,قناة الطريق بث مباشر تردد ,تردد قناة الطريق المسيحية على النايل سات ,قناة الطريق المسيحية بث مباشر اون لاين
,قناة الطريق تردد نايل سات ,تردد قناة الطريق النايل سات ,قناة الطريق بث حى مباشر ,قناة الطريق بث حى ,قناة الطريق المسيحية بث حى ,تردد قناة الطريق جوزيف ,بث قناة الطريق مباشر ,بث قناة الطريق ,بث قناة الطريق المسيحية ,قناة الطريقة الجعفرية بث مباشر ,بث مباشر قناة الطريق بدون تقطيع ,قناة الطريق بث مباشرة
,بث مباشر لقناة الطريق بدون تقطيع ,بث مباشر لقناة الطريق على النت ,البث الحي لقناة الطريق المسيحية ,اخر تردد لقناة الطريق المسيحية ,تردد الجديد لقناة الطريق ,الصفحة الرسمية لقناة الطريق ,قناة الطريق برنامج كاميرا الطريق ,كاميرا قناة الطريق ,الطريق قناة قبطية ,قناة الطريق المسيحية بث مباشر على النت ,قناة الطريق البث المباشر ,قناة الطريق على الهوت بيرد ,تردد قناة الطريق على النايل سات ,تردد قناة الطريق على الاوربى ,ترانيم على قناة الطريق ,شاهد قناة الطريق البث المباشر ,شاهد قناة الطريق بث مباشر
,قناة الطريق جوزيف نصرالله ,قناة الطريق مباشر ,قناة الطريق مباشرة ,قناة الطريق مباشر اليوم ,قناة الطريق بث مباشر بدون تقطيع ,قناة الطريق لايف ,قناة الطريق اون لاين ,قناة الطريق المسيحية اون لاين ,قناة الطريق بث مباشر اون لاين ,مشاهدة قناة الطريق اون لاين ,بث مباشر لقناة الطريق ,الموقع الرسمى لقناة الطريق ,بث مباشر لقناة الطريق المسيحية ,احدث تردد لقناة الطريق المسيحية .
,قناة الطريق برنامج يارب ارحم ,قناة الطريق يوتيوب ,ترانيم قناة الطريق يوتيوب ,قناة الطريق المسيحية بث مباشر يوتيوب ,تردد قناة الطريق والكرمة ,تردد قناة الطريق هوت بيرد ,تردد قناة الطريق على هوت بيرد ,قناة الطريق نايل سات ,تردد قناة الطريق نايل سات ,قناة الطريق برنامج نحو الوطن ,جوزيف نصرالله قناة الطريق ,قناة الطريق المسيحية نايل سات ,قناة الطريق المسيحية تردد نايل سات
قناة الطريق بث مباشر,قناة الطريق اليوم,قناة الطريق تردد,قناة الطريق الى الله,قناة الطريق المسيحية على النايل سات,قناة الطريق مباشرة الان,قناة الطريق مباشر على النت,قناة الطريق الى التوبة,قناة الطريق
إله الإعلان الكتابي – إله الكتاب المقدس – كوستي بندلي
في مسرحية الذباب أشار سارتر إلى الألوهة باسم “جوبيتر” وهذا ليس عبثاً، لأن اسم جوبيتر مرتبط بأسطورة بروميتيوس، ذلك الكائن الذي اختلس ناراً من السماء ليوجد منها البشر، فغضب عليه جوبيتر وأنزل به عقاباً أبدياً. تلك الأسطورة تصور العلاقة بين الألوهة والبشر علاقة عداء في الأساس حتى أن وجود الإنسان نتيجة اختلاس للقوة الإلهية. وكأن الإنسان لا يوجد إلا ضد الله. هذا هو بالضبط موقف سارتر. فقد كتب في “الكائن والعدم” إن المخلوق “لا يمكن أن يؤكد ذاته إلا ضد خالقه”.
1 – الله محبة
ولكن جوبيتر الذي نسب إليه الأقدمون – وسارتر من بعدهم – صفات التملك والحسد الكائنة في البشر ليس إله الإعلان الكتابي. إله الكتاب – وقد تجلى لنا تماماً في يسوع المسيح القائل “من رآني فقد رآى الآب” (يوحنا 14: 9) – ليس عنده تسلط وتملك. ذلك لأنه عطاء كله. لقد قال عن نفسه في العهد القديم: “أنا ينبوع الماء الحي”. وهتفت المزامير: “كما يشتاق الأيل إلى ينابيع الماء الحي، هكذا تشتاق نفسي إليك يا رب”، والينبوع فيض مستمر، هبة حياة دائمة. وفي العهد الجديد كتب الرسول يوحنا “الله محبة” (1يوحنا 4: 8 ،16) وكأنه يقول إن المحبة هي أفضل تعريف عنه لأنه في جوهره محبة عطاء. لقد قال جوبيتر “الذباب”: “إنني لا أحب أحداً” أي أنه قابع في عزلة وأنانية أبديتين. ولكن إله الكتاب ليس فقط بحب ولكنه المحبة عينها. إنه محبة منذ الأزل ولذلك فهو ثالوث، لأن علاقة المحبة لكي تقوم تفترض وجود أكثر من شخص واحد. إله الكتاب يظهر لنا علاقة حب تجمع الأقانيم حتى أن الأقنوم الأول لا يعرف عنه إلا بالنسبة للثاني (فالآب ليس آبا إلا بالنسبة للابن) والثاني لا يعرف عنه إلا بالنسبة للأول (فالابن ليس ابناً إلا بالنسبة للآب)، الله يظهر لنا في صميمه عطاء تاماً متبادلاً: “كل ما هو لي فهو لك وكل ما هو لك فهو لي” (يوحنا 17: 10). فالآب يعطي ذاته بالكلية للابن، يعطيه جوهره بكامله، ولذا فالابن صورة تامة عن الآب: “من رآني فقد رأى الآب” (يوحنا 14: 9). ولكنه بإعطائه جوهره أزلياً للابن فإنه يعطيه أن يكون عطاء، ولذا فالابن متجه إلى الآب كلياً. في العهد الجديد عندما يظهر الآب، لا يمجد ذاته إنما يمجد ابنه. فإنه عندما اسمع صوته حين معمودية يسوع وحين تجليه، اسمعه ليمجد ابنه قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (متى 3: 17، 17: 5) وكذلك الابن أتى إلى العالم ليمجد الآب: “انا مجدتك على الأرض” (يوحنا 17: 4).
هذه المحبة التي هي في صميم الله تعين نوع علاقته بالبشر. هذه العلاقة لا يمكنها أن تكون إذاً إلا علاقة حب وعطاء. الآب يجب العالم بالحب ذاته الذي يحب به ابنه: “…. إنك أحببتهم كما أحببتني” (يوحنا 17: 23). هذا ما يتجلى في العهد القديم عندما صور الأنبياء ونشيد الأنشاد علاقة الله بشعبه كعلاقة الزوج بزوجته والحبيب بحبيبته. ولكنه ظهر لنا خاصة في يسوع المسيح. فالحب الذي أظهره يسوع لنا كشف لنا كل عمق حب الآب، لأن الابن صورة الآب. بيسوع خاصة عرفنا أن علاقة الله بالبشر كلها سخاء وبذل. حياة يسوع كانت معطاة لنا كلها، معطاة لنا حتى الموت، معطاة لنا بدون قيد أو شرط، معطاة للخطأة والصديقين، للأشرار والصالحين، ففهمنا هكذا أن الله عطاء غير مشروط: “لا يكاد أحد يموت عن بار، وقد يقدم أحد على الموت عن صالح وأما الله فقد برهن على محبته لنا بأن المسيح قد مات عنا ونحن بعد خطأة” (رومية 5: 7، 8). رأينا يسوع يولد في مزود ويرفض الغنى والسلطة والمجد، رأيناه يغسل أرجل التلاميذ ويؤكد بأنه “لم يأت ليُخدم بل ليَخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين” (متى 20: 28)، رأيناه “طالعاً حتى الموت” (فيليبي 2: 8)، وهكذا في يسوع الذي هو على حد تعبير الرسول بولس “صورة الله غير المنظور” (كولوسي 1: 15) أدركنا أخلاق الله وعرفنا بأن التسلط والتشامخ والتجبر والتملك، تلك الأخلاق التي نسبها سارتر لإلهه، بعيدة عن أخلاق الإله الحي بعد السماء عن الأرض.
بيسوع المصلوب عنا “ليس حب أعظم من هذا أن يضع الإنسان نفسه عن أحبائه” (يوحنا 15: 13) عرفنا أن الله مبذول لنا كله، وبأن طبيعته لا أن يتملك ويحتفظ لنفسه ويطلب ما لنفسه بل أن يعطي ويغدق بدون حساب. أدركنا بيسوع نوعية علاقة الله بخليقته. يقولون إن الله خلق الكائنات لمجده. ولكن ما هو مجد الله؟ “مجد الله، يقول أحد الكتاب المعاصرين الروحيين، ليس أن يأخذ بل أن يعطي. مجد المحبة أن تحب…. مجد الينبوع أن يملأ ويسقي ويروي ويغسل. مجد الشعلة أن تلهب وتضيء وتدفئ، مجد الأب أن ينجب ويربي ويشدد….”.
يقول لويس افلي في كتابه “أبانا….”: “ما هو مجد الله؟ الله يحب. مجده أن يكون الله، أي أن يكون محبة….” (ص 49). وأيضاً: “الله خلق الخليقة حباً، ليعطي وليهب ذاته، ليحيي كائنات أخرى بحياته، ليبهج كائنات أخرى بفرحه” (ص 48).
هذا ما عبر عنه الآباء الأقدمين ايريناوس، عندما كتب في القرن الثاني للميلاد: “مجد إله حياة الإنسان”. وكأنه يرد مسبقاً على تصورات سارتر الذي سمى إلهه جوبيتر “إله الأموات” كما رأينا وقال أنه يسر برؤية الأحياء شبيهين بالأموات، بينما سمعنا الرب يقول: “الله ليس إله الأموات بل إله الأحياء” (لوقا 20: 38)، وسمعناه يكشف لنا مقاصد الله بقوله: “أما أنا فقد أتيت لتكون لهم الحياة وتكون لهم بوفرة” (يوحنا 10: 10).
هكذا يتضح لنا أن هم الله ليس أن يزيل وجودي بل أن يمدني بوجوده، كل ما يريده الله مني هو أن أدعه يحبني ويجعلني في الوجود بحبه، هو أن أقبل بأن أتلقى منه الكينونة والخير. إنه ليس فقط لا يريد إلغاء وجودي بل إنه لا يرتضي لي بوجود ناقص، مبتور، إنه يريد لي كل الوجود، يريد أن يشركني في حياته كلها وأن يغنيني بملئه كله. ليس فقط لا يشاء الله الغاء وجودي، بل يريد أن يدفعني إلى مستوى وجوده، أن يمنحني كل غنى وجوده. وبعبارة أخرى يريد الله تأليهي. هذا ما عبر عنه القديس مكسيموس المعترف في القرن السابع عندما كتب: “الله متعطش إلى تأليه الإنسان”. الله لا يشاء تحقير الإنسان بل، كما أن الجدير بهذا الاسم يسر بأن يصبح ابنه مثله مكتمل الرجولة، هكذا شاء الله أن يجعلنا شركاء لاهوته وأن يعاملنا معاملة المثل للمثل. لذا كتب بطرس الرسول بأننا مدعون إلى أن نكون شركاء الطبيعة الإلهية” (2بطرس 1: 4). وكتب الرسول يوحنا “أيها الأحباء، نحن من الآن أولاد الله، ولم يتبين بعد ماذا سنكون. غير أننا نعلم أننا، إذا ما ظهر، سنكون أمثاله، لأننا سنعاينه كما هو” (1يوحنا 3: 2). ويختتم تيموتي وار مقاله عن “تجلي الجسد” بقوله: “يقول مخطوط عبراني: إن أحد الملوك دخل بستان ليخاطب البستاني، فاختبأ البستاني، فقال له الملك: لماذا تختبئ مني ألست مثلك؟ هكذا سيسير الله مع الصديقين في الفردوس الأرضي وسيرونه وسيرتجفون منه، وسيقول لهم آنذاك، لا تخافوا أنا واحد منكم” (ص 144). في هذا الألفة التي يعتبر فيها الله نفسه واحداً من أحبابه، أين مكان الخوف الذي قال عنه سارتر على لسان جوبيتر الذباب “إن له ريحاً شهية في خياشم الآلهة”؟ وكأن الرسول الحبيب قد رد مسبقاً على سارتر عندما كتب: “لا خوف في المحبة بل المحبة الكاملة تنفي الخوف…. والخائف لم يكتمل في المحبة” (1يوحنا 4: 17، 18).
قد نتساءل والحالة هذه: لماذا سقط آدم أذاً عندما شاء أن يحقق وعد الشيطان “ستصيران آلهة”؟ ألا يعني ذلك أن الله لا يشاء أن يتأله الإنسان؟
ولكن هل كانت خطيئة آدم بأنه أراد أن يتأله؟
فلنز جواب لويس افلي على هذه المسألة: “كل تاريخ البشرية انحرف وتحطم لأن آدم كون لنفسه فكرة خاطئة عن الله. لقد كان يريد أن يصبح مثل الله. أرجوا أنكم لم تعتقدوا لحظة أن خطيئة آدم كانت كامنة في ذلك. أي طموح آخر كان يمكن أن يكون له؟ ألم يكن هذا هو الهدف بالضبط الذي دعاه الله إليه؟ ولكن آدم أخطأ النموذج. فقد اعتقد أن الله كائن مستقل، مكتف بذاته ولذلك تمرد وعصى حتى يصبح مثله.
“ولكن الله عندما كشف ذاته، عندما أراد أن يظهر ما هو بالحقيقة، أظهر ذاته محبة، حناناً، عطاء ذات…. الله أظهر ذاته طائعاً، طائعاً حتى الموت.”
“هكذا عندما اعتقد آدم أنه يصبح مثل الله اختلف بالكلية عن الله. لأنه انفصل واعتزل بينما الله شركة كله”.
هكذا لم يسقط آدم لأنه أراد أن يصير مثل الله، ولكن لأنه لم يتمثل الله حقيقة، أي لم يشأ أن يكون مثله عطاء يقابل عطاء، بل فصم الشركة ورفض “عطية الله” (تلك العطية التي حدث يسوع السامرية عنها قائلاً: “لو كنت تعرفين عطية الله يوحنا 4: 10) أي أنه رفض أن يمتلئ من الوجود الذي كان الله يدفقه فيه وحبس على نفسه في اكتفائية قاتلة.
2 – الله يريد ويحترم حرية الإنسان
ولكن الله يحترم حرية الإنسان حتى عندما يريد الإنسان أن يفصم الشركة. يحترمها إلى حد أنه يسمح للإنسان أن يستخدم ذلك الوجود، الذي وهبه عطية حب، ضد معطيه. يحترمها إلى حد أنه يسمح للإنسان أن يذهب في تمرده إلى أبعد الحدود. هذا هو معنى الجحيم. إنها مظهر من مظاهر احترام الله الكلي لحرية الإنسان. “جهنم هي، كما يقول برناتوس، ألا يحب المرء”. وبعبارة أخرى يرتضي الله بأن يرفض الإنسان حبه، وبأن يرفضه، إذا شاء، إلى الأبد. ولكن الله لا يزال يحب ذلك الإنسان. يمكن للإنسان أن يرفض الله، ولكن لا يمكن لله أن يرفض الإنسان. يمكن للإنسان أن يكتفي بذاته ولكن الله عطاء كله. الله أمين على العهد الذي أقامه مع الإنسان مذ خلقه ولو لم يكن الإنسان أميناً. يقول لويس افلي: “يمكن أن ينكر الله وأن ينسى ولكن الله لا يمكنه أن ينكرنا وأن ينسانا. يمكن للإنسان أن يكون دون الله، ولكن الله لا يمكن أن يكون دون الإنسان. يمكن للإنسان أن يترك البنوة ولكن لا يمكن ألا يكون أباً”. لذا فجهنم ليست انتقاماً رهيباً يجريه إله سادي على إنسان عصى أوامره، ليست امتداداً لانتقام جوبيتر من بروميتيوس، ولكن الإنسان الذي رفض الله جذرياً ونهائياً يعذبه رفضه لأنه مخالف لمتطلبات طبيعته العميقة. جهنم هي أبعد المظاهر لاحترام الله حرية الإنسان وهي انعكاس سلبي لحبه.
احترام الله لحرية الإنسان يعني أن هذه الحرية لا تنتزع من الله عنوة واغتصاباً كما تصور مسرحية “الذباب”، إنما هي هبة من الله للإنسان. جوبيتر “الذباب” يناقض نفسه لأنه من ناحية أعطى الإنسان الحرية ومن ناحية أخرى يحاول أن يعمي الإنسان عن وجودها فيه وأن يخمدها في قلبه. أما إله الإعلان الكتابي فليس عنده هذا التناقض. لقد شاء الإنسان حراً لأنه شاء أن يكون مثله، على صورته. هذا ما علمه الآباء. فقد كتب غريغوريوس النصيصي: “بالحرية الإنسان على شكل الله مقدس، لأن الاستقلال والحرية هما من خصائص القداسة الإلهية” وأيضاً: “الإنسان، إذ خلق على صورة الله، يجب أن يتمتع بكل خيرات سيده. وبين هذه الخيرات، الحرية”. وأيضاً: “إن الحرية هي الشبه مع ذاك الذي هو سيد مطلق لا سيد له، وقد أعطي لنا هذا التشبه، نحن البشر، من الله، في البدء. إن كتاب أعمال الرسل (17: 28) يؤكد الأمر نفسه: “إننا من الذرية الإلهية”.
هذا ما نجد صداه عند مفكرين معاصرين. فقد كتبت سيمون فايل بأن الله شاء من أجل حبه لنا أن يجعل نوعاً من المساواة بيننا وبينه، لذا أعطانا الحرية المطلقة بأن نقبل إليه أو نؤله ذواتنا وهماً ونرفضه، لقد أعطانا سلطة الضياع اللانهائي في الوهم هذه لكي يتسنى لنا أن نتخلى عنها حباً: “الله هو…. الصديق بكل معنى الكلمة. فلكي يكون بينه وبيننا، رغم المسافة اللامتناهية، نوع من المساواة، شاء أن يضع في خلائقه مطلقاً ألا وهو الحرية المطلقة بأن نقبل أو لا بالاتجاه الذي جعله فينا نحوه…. لقد أعطانا سلطة الوهم اللامتناهي هذه لكي نستطيع أن نتخلى عنها حباً”.
وقد كتب غبريال مارسيل من جهته عن الله: “هذه الحقيقة هي نفسها حرة وتزرع بحرية حريات”.
الله يبتهج بحرية الإنسان ولا يرهبها كما يرهبها جوبيتر “الذباب”. يبتهج بها كما يبتهج الوالد ذو الأبوة الأصلية عندما يرى ولده أصبح يحبه لا بتبعية الطفل بل باستقلال البالغ. هذا ما قاله بيغي بعبارات رائعة وكأنه يرد مسبقاً على ذباب” سارتر:
“اسألوا هذا الوالد إن لم تكن أفضل لحظة عنده
تلك اللحظة التي يبدأ فيها أبناؤه يحبونه محبة رجال،
يحبونه كرجل،
بحرية،
مجاناً،
اسألوا هذا الأب الذي يكبر أولاده.
“أسألوا هذا الوالد إن لم تكن هناك ساعة سرية،
لحظة سرية،
وأن لم تكن
عندما يبدأ أبناؤه يصبحون رجالاً،
احراراً.
ويعاملونه هو كرجل،
حر،
ويحبونه كرجل،
حر،
أسألوا هذا الأب الذي يكبر أولاده.
“أسألوا هذا الوالد إن لم يكن هناك اختيار وحيد من نوعه
وإن لم يكن
عندما بالضبط يزول الخضوع وعندما يرى أبناءه وقد أصبحوا رجالاً بحبونه ويعاملونه كخبراء إذا صح التعبير
معاملة الرجل للرجل،
بحرية،
بمجانية….
أسألوا هذا الأب إذا كان لا يعرف إن لا شيئاً يساوي نظرة رجل تلاقي نظرة رجل.
“ولكنني أنا أبوهم، يقول الله، وأعرف وضع الإنسان.
فأنا الذي خلقته.
….. إنني لا أطلب منهم سوى قلبهم….
“خضوع العبيد كلهم، لا يساوي نظرة واحدة جميلة لرجل حر. أو بالأحرى خضوع العبيد كلهم تشمئز له نفسي وإني أهب كل شيء مقابل نظرة جميلة واحدة لرجل حر،
مقابل طاعة وحب وإخلاص جميل واحد صادر عن رجل حر….
“…. في سبيل هذه الحرية، في سبيل هذه المجانية ضحيت بكل شيء، يقول الله
في سبيل ميلي بأن يحبني رجال أحرار،
بحرية،
بمجانية،
رجال حقيقيون، ذوو رجولة، بالغون، أشداء.
شرفاء، رقيقون، ولكنهم ذوو رقة مقرونة بالشدة.
من أجل أن أنال هذه الحرية، هذه المجانية، ضحيت بكل شيء، لكي أخلق هذه الحرية، هذه المجانية،
لكي أفسح المجال لهذه الحرية وهذه المجانية”.
لذا فالحرية ليست فقط حقاً اوتيناه، إنما هي واجب يطالبنا به الله الذي لا يريد أن يقيم علاقة إلا مع بشر أحرار. بهذا المعنى كتب بردياييف: “إن الحرية في الحياة الدينية واجب. الإنسان ملزم بأن يحمل عبء الحرية وليس له الحق بأن يتخلص منه. الله لا يقبل إلا البشر الأحرار، إنه لا يحتاج إلا إلى بشر أحرار. عند دوستويفسكي، المفتش الأكبر، عدو الحرية وعدو المسيح، يوبخ المسيح هكذا:” لقد أردت هذه المحبة الحرة من الإنسان لكي يتبعك بحرية، مجذوباً إليك ومأسوراً منك”…. الدين المسيحي إنما هو الحرية في المسيح الخلاص القسري مستحيل وبدون جدوى”.
ليس صحيحاً ما يدعيه سارتر عندما كتب في كتابه “الوجودية فلسفة إنسانية” بأن علاقة الله بالإنسان شبيهة بعلاقة الصناعي بمقص الورق الذي يصنعه. ليس الإنسان شيئاً بالنسبة لأله الإعلان الكتابي، الله لا يريد “تشيئ” الإنسان. ذلك لأن الله لا يوجد الإنسان كما يوجد الصناعي مقص الورق. علاقته بالإنسان ليست علاقة خارجية كعلاقة الصناعي بالشيء الذي يصنعه. إنما خلق الله للإنسان يعني امداد الإنسان من وجوده، اشراكه في وجود الله، إذاً في حرية الله. يقول شارل ميللر مفنداً ذلك المفهوم السارتري للخلق: “إن هذا المفهوم للخلق يفترض إنه لا يمكن أن تكون للإنسان أية ذرة من الحرية والمبادرة، كما هو وضع مقص الورق الذي هو سلبي تماماً بين يدي من يصنعه أو يستعمله”، “إذا كان الخلق هو صنع أدوات، فلم يعد للإنسان سوى أن يدع نفسه “يُستخدم” من صانعه، في هذا الحال “لم يعد بوسعنا أن نرى…. في العالم سوى أمرين: إما السلبية المخزية، سلبية عبيد يزحفون أما إله طاغية، أو الاكتفائية المتكبرة، اكتفائية كائن يدعي أن لا اب ولا أم له”، ولكن العمل الخلاق ليس عملاً حرفياً، ليس الخلق تقنية… فإذا كان خلق العالم المادي نفسه لي بتقنية، فبالأحرى خلق الإنسان: الله يخلق الإنسان حراً، إنه يصنعه حراً، إنه يخلق الحرية فيه. ليس عمل الخلق “صناعة” حرفية، بل امداداً كيانياً بداعي الحب، إنه هبة الذات، إنه إرادة إشراك كائنات بالكائن. أما بالنسبة للإنسان، فالخلق يعني قصد جعله مساهماً في الطبيعة الإلهية، وذلك، بين أمور أخرى، بالحرية”. هكذا فللمخلوق كيان قائم بذاته مستمد من الله، “فمن هذا الكيان القائم بذاته بالضبط يستمد المخلوق قوة التمدد على الله، فيقبل الله بأن يستخدم المخلوق تلك الحرية التي وهبه إياها، لينقلب عليه، ليكون “إلهاً دون الله”.
قال أوريست لجوبيتر (الذباب): “إنك …. ملك الحجارة والنجوم، ملك أمواج البحر، ولكنك لست ملك البشر”. ولكن إله باغي كان قد أكد قبل ذلك بكثير أن علاقته بالبشر مختلفة بما لا يقاس عن علاقته بالأشياء التي في الكون (فضلاً عن أن علاقة الله بالمخلوقات الجامدة نفسها ليست من باب علاقة الصناعي بمصنوعه، كما أوضح ميللر). يقول إله باغي:
“غبطة عبيد، خلاص عبيد، غبطة عبودية، كيف تريدون أن يهمنى ذلك؟ هل يحب أحد أن يحبه عبيد؟”
“إن كانت القضية قضية إعطاء البرهان عن سلطاني، فسلطاني ليس بحاجة إلى هؤلاء العبيد ليظهر، سلطاني معروف كفاية، معروف كفاية بأنني القادر على كل شيء.”
“سلطاني يتجلى كفاية في كل مادة وفي كل حدث.”
“سلطاني يتجلى كفاية في رمال البحر ونجوم السماء.”
“ليس اعتراض عليه، إنه معروف، إنه يتجلى كفاية في خليقتي الجامدة….”
“ولكنني في خليقتي الحية، يقول الله، أردت ما هو أفضل من ذلك، ما هو أكثر من ذلك.”
“أفضل من ذلك بما لا يقاس. أكثر من ذلك بما لا يقاس. لأنني أردت هذه الحرية.”
“خلقت هذه الحرية عينها…”
“من اختبر مرة واحدة أن يحب بحرية، لا يعود يرى للخضوع طمعاً.”
“من اختبر أن يحبه رجال أحرار، لا يعود يرى معنى لسجدات العبيد”.
هذا الاحترام الإلهي لحرية الإنسان يحدد بالضبط طبيعة الإيمان. فالإيمان يقين ولكنه يقين حر. ذلك أن الله يريد أن يقبل الإنسان اليه تلقائياً، لا مغلوباً على أمره، لذا فعوض أن يفرض وجوده علينا كما تفرض الحقائق الحسية أو العلمية ذاتها فرضاً، يحتجب لكي يتسنى لنا أن نقبل إليه بحرية الحب. هذا ما عبر عنه بردياييف بقوله: “الإيمان هو كشف الأمور اللامنظورة”، أي أنه عمل حر، عمل اختيار حر. فالأمور اللامنظورة لا تدخل إلينا عنوة، لا تكرهنا اكراهاً شأن الأمور المنظورة. إننا نكشف الأمور اللامنظورة بخطر، بمجازفة، لأننا نحبها وقد اخترناها بحرية…. العلم يختلف عن الإيمان بالضبط من حيث أنه قسري ومضمون، من حيث أنه لا يدع مجالاً للاختيار الحر ولا يحتاج لمثل هذا الاختيار. العلم ليس خطراً، إنه يكشف الأشياء المنظورة، تلك التي تكرهنا. أما في الإيمان فحرية ولذا ففيه شجاعة، ليس في العلم حرية ولذا فليس فيه من بطولة. المسيح الذي هو موضوع إيمان وحب لا يكره، لا يظهر بشكل يقسر الإيمان. إنه يظهر بشكل عبد يموت ميتة شائنة. لذا يلزم اختيار حر وحب مقدام ليرى المرء في صورة المسيح، العبد المهان، القدرة الجليلة التي لابن الله، المساوي للآب في الجوهر…. بنظر ذلك الذي آمن، الذي قام بعمل اختيار حر، المسيح قام من الأموات وبذلك أظهر قدرته الإلهية التي تنير وتخلص العالم. أما بنظر غير المؤمن، الذي لم يقم بالاختيار الحر، الذي لا يعرف إلا الأشياء المنظورة، المكرهة، فالمسيح مات على الصليب وانتهى الأمر. إن معجزة القيامة لا تنكشف إلا للحرية، إنها مغلقة للإكراه”.
3– الله يجعل نفسه رهن حرية الإنسان
الله ليس فقط يحترم الإنسان ولكنه جعل نفسه، على نوع ما، رهن هذه الحرية. الضابط الكل شاء أن يكون، على نوع ما، تحت تصرف الإنسان. لقد كتب لويس افلي: “الله يحبنا. هذا ليس مجرد عبارة…. هذا يعني أن لنا سلطة عليه.
“لنا سلطة على الذين يحبوننا. الأولاد يعرفون ذلك، رغم ضعفهم فيحردون ويرفضون الطعام لأنهم بهذا ينالون من والديهم ما يشاؤون. إنهم بذلك يعطونهم برهاناً معكوساً عن اقتناعهم بأنهم محبوبون، بأنهم هامون. نحن هامون بنظر الذين يحبوننا والله يحبنا.”
“…. أن نحب كائناً يعني لا محالة أننا علقنا مصيرنا بمصيره، يعني أننا أعطيناه سلطة علينا.”
“الله، لأنه شاء أن يحبنا، اختار بأن يعطينا سلطة عليه.”
“على الصحون، في نورمندينا، تقرأ هذه العبارة القاسية: “الأقل حباً، هو دائماً الأقوى”. الذي يقل حباً عن الآخر يستر دائماً عاشقه. الله، أمامنا، هو دائماً الأضعف، لأنه يحب”. أليس هذا المعنى العميق لحادثة صراع يعقوب مع الملاك حيث نرى الله، بشخص ملاكه، يجعل نفسه رهن إرادة الإنسان يعقوب الذي قال له: “لا أتركك إلا إذا باركتني”. ومن هنا اكتسب اسمه “إسرائيل” الذي يعني “القوي ضد الله” (تك 32: 29) الذي ورثناه نحن “إسرائيل الجديد”. أليست قوة الصلاة ناتجة من كون الله شاء أن يربط قوته بطلب الإنسان: “كل ما طلبتموه من الآب باسمي تنالونه” (يوحنا 15: 16). ولذا قال إله باغي، أن “لا سلاح له” أمام صلاة البشر. ألم يقل الرب “إن ملكوت الله يغتصب اغتصاباً” (متى 11: 12)؟ لقد كتب بول افدوكيموف في مقال له: “لقد تبنى سارتر عبارة الفوضوي الروسي باكونين: “إذا كان الله موجوداً، فلست بحر، أنا حر، فالله إذاً غير موجود”. ولكن ما ينبغي أن يقال هو أن الحقيقة أعجب من هذا بما لا يقاس: فإن “الأنا حر” عند الإنسان يفترض أن الله لم يعد حراً. يستطيع الإنسان أن يقول “لا” لله. أما الله فقد التزم إلى حد أنه لن يقول قط فيما بعد “لا” للإنسان. هذا ما يؤكده الرسول بولس: “في الله ليس إلا نعم”.
من دواعي الإلحاد السارتري، كما يبين فرنسيس جانسون تلميذ سارتر، أن محبة الله نفسها للإنسان لا يمكن أن تكون عبودية للإنسان، لأن الله يعطي ولا يأخذ فيما المحبة الأصلية تقتضي التبادل. هذا ما يلمح إليه سارتر على لسان الثائر كارك الذي يخاطب الفلاحين بهذه العبارات (من مسرحية الشيطان والله): “للذي يعطي قبلة أو صفعة أعطوا قبلة أو صفعة، ولكن للذي يعطي دون أن تستطيعوا الرد، أعطوا كل ما في قلبكم من حقد، لأنكم عبيداً وسيستعبدكم، لأنكم كنتم مهانين وسيزيد في اهانتكم” (171).
وقد كتب جانسون بهذا المعنى أيضاً: “من أراد أن يحب البشر، كان عليه أن يضع نفسه أولاً في متناولهم، ويكفي أن يكون وضع نفسه من متناول ضرباتهم”. ولكن إلهنا جعل نفسه في متناول البشر لأنه جعل نفسه بحاجة إليهم وجعل نفسه في يسوع المسيح عرضة ليس فقط لضرباتهم بل لقتلهم أيضاً. لذا دخل معهم في حوار حقيقي لا تفضل فيه ولا استعباد. وقد قال الأب جورج خضر بهذا المعنى في حديثه عن “مصير الله”: “…. إن الله جعل نفسه، بانعطاف منه، بحاجة إلى … خليقة، الله تخلى لنا عن شيء من قدرته عندما فطرنا أحراراً. وإذاً ارتضى أن تكون صورته في الأرض مرئية أو محجوبة، وقبل أن يرى أو أن يغلق عليه.
“الله منذ أن طرح هذا الوجود جعل نفسه في المصير، في تاريخ الوجود، ودل على ذلك بأجلى بيان عندما شلح نفسه في مزود، رهيناً لمريم وبالتالي عندما أضحى هو في قيضة الإنسان يحيا أو يمات…
“والله إذن ليس بمغتصب لا يتسلط إلا على ذاك الذي يسلطه، ولا ينحني إلا عند من يرحب به. الله جعل نفسه مدعو الإنسان ضيفاً على الإنسان الحر الذي يناديه أو الذي يباعده. الله هو الفقير للإنسان. نحن طبعاً بحاجة إلى ربنا ولكن منذ أن تخلى عن مجده في الخلق الأول وفي سر التجسد هو أيضاً صار فقيراً إلى حب الإنسان لأن الله جعل نفسه في حوار. ولا يمكن أن تعني المحاورة شيئاً ما لم تعن كائنين أصيلين يتواجهان بحرية… الله يرتفع عنا…. عندما نحن نطرده. الله طريد الإنسان كما هو ضيف الإنسان…”
“…. أنتم أسياد على الله. أليس هو القائل: “ما جئت لأُخدم بل لأَخدم وأبذل نفسي فدية عن كثيرين”؟ أليس هو راكعاً عند أقدامنا لكي يغسلها كما فعل في علية صهيون؟ أليس المسيح كله بين أيديكم تحيونه أو تميتونه”.
في مقال يعرض فيه بإيجاز بنود الإيمان، كتب الأب فرنسوا فاريون، أن الله، بما أنه محبة، فهو، كما تجلى لنا بالمسيح، فقر وتبعية وتواضع:
“الفقر أولاً، لا الاقتصادي، بل الروحي. المحب يقول للمحبوب: “أنت فرحي”، وهذا يعني: “بدونك أنا مفتقر إلى الفرح”. أو “أنت كل شيء لي”، وهذا يعني: “بدونك لست شيئاً”. الحب هو إرادة المرء بأن يكون بالآخر ومن أجل الآخر…. الأكثر حباً هو إذاً الأفقر. المحب لا نهائياً – الله – فقير لا نهائياً.”
“ثم التبعية، الروحية لا الحقوقية. المحب يقول للمحبوب: “أريد أن أكون تابعاً لك”. الحب وإرادة الاستقلال لا يتفقان إلا سطحياً. الأكثر حباً هو إذاً الأكثر تبعية. المحب لا نهائياً – الله – تابع لا نهائياً….”
“أخيراً التواضع. المحب يقول للمحبوب: “لا يمكن أن أترفع عليك دون أن أخطئ بحق الحب”. إذا كان المحب، بصورة ما، أعظم من المحبوب، فلا يكون حبه حباً إلا بالفعل الذي ينكر به تفوقه ويجعل نفسه مساوياً للمحبوب. الأكثر حباً هو إذاً الأكثر تواضعاً. المحب لا نهائياً – الله – متواضع لا نهائياً. لذا لا يمكن أن يرى الله في حقيقة كيانه إلا بالنظر إلى المسيح الذي يعبر عن التواضع الإلهي بعمل غسل الأرجل.”
“…. الله غني لا نهائياً، ولكنه غني بالحب لا بالامتلاك (والغني بالحب مرادف للفقر)…. الله هو اللامحدودية والقدرة اللامتناهية (ولكن حبه هو اللامحدود والمقتدر كلياً…. المقتدر أن يتنازل إلى حد الامحاء).
“وبعبارة أخرى، أن سر الحب المحتجز عن الإدراك، الذي هو الله في كيانه الأبدي، لا يمكن أن يترجم ويعبر عنه ويعلن إلا بفقر وتبعية وتواضع المسيح”.
ما أبعد جوبيتر “الذباب” وبصورة أعم ما يدعوه سارتر “الله” في كتاباته المختلفة، عن ذاك الذي يرينا إياه سفر الرؤيا في شخص يسوع المسيح يلتمس من الإنسان أن يقبله، لا ليتسلط عليه بل ليجعله مشاطراً حياته وخيراته: “ها أنا واقف على الباب وأقرع، إن فتح لي أحد أدخل وأتعشى معه وهو معي” (رؤيا 3: 20).
مأزق الإلحاد السارتري – الحرية الفراغ – كوستي بندلي
مأزق الإلحاد السارتري – الحرية الفراغ – كوستي بندلي
يبقى أن سارتر لم يستطع أو لم يشأ أن يميز الإله الحي عن التصورات الصنمية التي يكونها الإنسان عنه، فرفض الله لكي يوجد الإنسان، أو بعبارة أخرى ليكون الإنسان حراً، إذ أن الحرية والوجود هما في نظر سارتر أمر واحد. رفض الله، بالنسبة لسارتر، يطلق حرية الإنسان، لأنه عند ذاك مرغم أن يخلق ذاته وأن يخلق القيم إذ ليس له ما يستند إليه خارج اختياره. بهذا المعنى قالسارتر: “لقد كتب دوستويفسكي: لو كان الله غير موجود، فكي شيء يكون مسموحاً. هذا هو نقطة انطلاق الوجودية. بالفعل كل شيء مسموح إذا كان الله غير موجود، وإذاً فالإنسان متروك لأنه لا يجد لا في ذاته، ولا خارج ذاته إمكانية التعلق بشيء”.
هكذا فحرية الإنسان هي، بنظر سارتر، المرجع الوحيد لكل شيء لم يعد للإنسان نموذج إلهي يعود إليه في تقييم أموره وفي تحقيق ذاته، إنما صار عليه أن “يخترع” ذاته والقيم، وهكذا بقبوله تلك العزلة يبلغ إلى ملء قامته كإنسان ويحافظ على أثمن ما لديه، على تلك الحرية التي هي مرادفة لوجوده.
ولكن ما هي تلك الحرية التي يجعل فيها سارتر كل كرامة الإنسان؟ إنها فراغ ظهر في ملء الكون. إنها “عدم”، يقول سارتر، ويعني بذلك أنها غير موجودة ولكنها مجرد قوة نفي ورفض، بها ينفصل الإنسان عن أوضاعه ليتجاوزها. ولكن يتجاوزها إلى أين وبالرجوع إلى أية مقاييس؟ ليس للحرية مقاييس بنظر سارتر وليس لها ما يستقطبها. إنها لذاتها المقياس والمرجع والهدف الوحيد. لا مبرر لها ولا غاية. تظهر يوماً إلى حيز الوجود ثم تتلاشى كلياً بالموت دون أن يكون لوجودها أو تلاشيها من معنى: “كل حي يولد دون مبرر ويستمر عن ضعف ويموت صدفة”. وهكذا يكون الإنسان “شهوة لا جدوى لها”. إن حريته تعطي للأشياء معاني ولكنها هو ووجوده لا معنى لهما. لذا فالحرية عبء على الإنسان لأنها فراغ دائم عبثاً يفتش الإنسان فيه عن كيانه ليستريح إليه، الإنسان “محكوم عليه بالحرية”.
تلك هي الحرية التي يعطيها سارتر قيمة مطلقة. ولكن فلنتساءل إذا كان مفهومه هذا للحرية يشكل جواباً مرضياً على مشكلة الإنسان. أمران يبدوان لنا عند ذاك، أولهما أن هذا المفهوم للحرية لا يخلو من متناقضات جوهرية، والثاني أنه تشويه وبتر للحرية الحقة.
1 – المفهوم السارتري للحرية لا يخلو من متناقضات جوهرية
يقول سارتر إن الكون والوجود الإنساني لا معنى لهما ولا مبرر، ولكنه من جهة أخرى يقرر بأن الإنسان في سعي مستمر إلى المعنى وأنه تحديداً كائن يعكي للأشياء ولأعماله معاني. ولكن السؤال الذي يبقى دون جواب في هذا المنظار السارتري هو الآتي: إذا كان الوجود كله، بما فيه الوجود الإنساني، لا معنى له، فمن أين للإنسان ذلك التوق إلى المعنى؟ من أين له تلك الحرية التي همها أن توجد معاني؟ كيف يُعقل وجود تلك الحرية التائقة إلى المعنى وسط عالم لا معنى له بتاتاً؟ من أين أتت تلك الحرية؟ كيف برزت في كون غريب عنها بالكلية؟ هذا ما عبر عنه جان لاكروا بقوله: “إذا كان العالم مجرداً من كل معنى، وإذا كان للإنسان تطلباً للمعنى، فمن أين يأتي هذا التطلب الإنساني، من أين يأتي الإنسان؟”
أضف إلى ذلك أن تقرير اللامعنى في الكون وفي الوضع الإنساني يفترض وجود معنى نحتكم إليه في تقريرنا هذا. فاللامعنى لا يحدد إلا بالنسبة لمعنى يتطلع الإنسان إليه ويصبو. وإلا لقبلنا الوجود على أنه واقع ليس إلا. لكن طالما ان الحرية تنتصب أمام الكون لتحكم عليه بأنه لا معنى، فهذا يفترض أن هناك معنى يستقطبها وإليه تعود في حكمها هذا، وإنها بالتالي لا يمكن أن تكون مجرد فراغ لا مبرر له ولا غاية. هذا ما عبر عنه مثلاً رينه حبشي في مؤلفاته، وقد لخص الدكتور جميل صليبا موقف هذا المفكر فيما يلي: “…. إذا كان الإنسان يدرك ما في وجوده الواقعي من نقص، فمرد ذلك إلى شعوره بالكمال. وإذا كان يدرك المحال المتجلي في حطام الوجود، فمرد ذلك إلى شعوره بإمكان الخروج منه”.
هذا المعنى الذي تسمو به الحرية الإنسانية على الوجود لتقيم بالقياس إليه الوجود لا يمكن أن ينبع إلا من الله، قاعدة الوجود وغايته. لذا فتقرير عبثية الوجود يفترض ضمناً الرجوع إلى ذلك القياس الإلهي الذي تنفيه عبثية سارتر وغيره: تلك هي المفارقة كما بينها مثلاً بول افدوكيموف بقوله: “إن أكبر مفارقة هي أن اليأس في ذروته يعود حتماً إلى المطلق المعلنة استحالته… وفي النهاية غياب الله هو الذي يجعل العالم عبثاً ويائساً، إنه وحده يبرر المواقف القصوى التي تقفها الوجودية… إن الله، ولو سلبياً، يستخدم هنا كمقياس: كل شيء يقيم بالإضافة إلى غياب المعنى الإلهي”.
مجمل الكلام، أن الحرية السارترية بحاجة إلى الله لكي تقرر أن الكون لا معنى له وتنفي بالتالي وجود الله. لذا فالإلحاد السارتري تراوده، شاء أم أبى، فكرة الله، وما تهالكه على نفي الله، كما يتجلى مثلاً في مسرحية “الشيطان والله”، حيث يدوي اسم الله في كل صفحة، سوى محاولة للتخلص من “شبح” ذاك الذي تصور أنه “قتله”.
ثم أن سارتر ينسب للحرية قدرة على أن توجد الإنسان. فالإنسان “ليس في البدء شيئاً. لن يوجد إلا فيما بعد، وعند ذاك يكون كما صنع نفسه… الإنسان هو فقط، ليس كما يتصور نفسه وحسب، بل كما يريد نفسه… ليس الإنسان سوى ما صنع نفسه”. لا شيء إذاً، في هذا المنظار، مفروض على الإنسان. فالحرية تتخطى كل ضغط الأوضاع البيولوجية والاجتماعية والظروف المعيشية، تتخطى ذلك كله لتوجد الإنسان كما يشاء هو أن يكون. فالإنسان صنيعة نفسه، صنيعة حريته وحسب، لا وليد الأوضاع التي وُجد فيها. هذا التأكيد على الحرية الإنسانية، على ما فيه من مبالغة، هو من أنبل مظاهر الفكر السارتري. ولكن التناقض يبدو بين تلك القدرة الخلاقة التي تُنسب إلى الحرية، من جهة، وبين كون تلك الحرية، من المنظار السارتري، مجرد فراغ يبرز لحظة وبلا مبرر في ملء الوجود لكي يتلاشى بالكلية دون أن يكون لوجوده هدف أو غاية. كيف يمكن للفراغ الذي لا معنى له أن يكون خلاقاً وأن يصنع أسمى المعاني وأنبلها؟ إذا كانت الحرية مجرد ثغرة في كثافة الكون، كما يعتبرها سارتر، فأنى لها أن تبدع في الكون وتغير وجه الأرض؟ بالطبع يرفض سارتر الإجابة على هذا السؤال لأن من ورائه سعياً إلى اكتشاف منطق في الوجود، فيما أن الوجود بنظره لا منطق فيه ولا مبرر له. هذا ما يدعوه سارتر في كتابه “الكائن والعدم”، وكأنه يقول: الأمور هكذا لأنها هكذا. ولكن هذا الموقف يشكل انتحاراً للعقل الذي لا بد له أن يفتش عن علة الأشياء. لذا فإذا رأينا أن الحرية تحرر الإنسان من عبودية نواميس الكون وقيوده، وجب علينا أن نفتش عن أصلها خارج الكون وأن نعتبرها مساهمة منحت للإنسان في سيادة سيد الكون ومبدعه. يقول الفيلسوف الوجودي ياسبرز أن من اختبر حقاً حريته وعن تجذره في الله: “عندما نقرر بحرية، ويتخذ كل شيء معناه لنا و…. نمتلك حياتنا، نعي بأننا لسنا مدينين بكياننا لنا وحدنا.
“على قمم الحرية، عندما يبدو لنا عملنا ضرورياً، لا بضغط خارجي صادر عن حتمية طبيعة لا تلين، بل بموافقة كياننا الداخلية… نعي أننا لأنفسنا، في حريتنا، هدية من التعالي. كلما كان الإنسان حقيقة حراً، كلما كان متيقناً من الله. عندما أكون حقيقة حراً، أكون متيقناً بأنني لست هكذا بنفسي”.
وبالمعنى نفسه، وبالاستناد إلى ياسبرز، كتب المفكر الأرثوذكسي بول افدوكيموف: “يجب الاعتراف بعظمة الوجودية التي ركزت كل تفكيرها على الحرية. تلك الحرية، التي هي بداهة أساسية للفكر البشري، تشكل شرط النشاط الإنساني الخلاق. ولكن هذه الوظيفة لا يمكن أن تأتي، إلا، إلا إذا ناقضت نفسها، من العالم، من مجموعات التبعيات والقيود التي تكونه. من البديهي أن الحرية تتعالى على الكون، وأن مصدرها خارج الكون، وأنها تقدم كهبة ملوكية. لذا، ففي فلسفة كارل باسبرز العميقة، الحرية تشير بوضوح إلى الواهب، تشهد بقوة لوجود الله. إن فضل ياسبرز الكبير هو أنه اكتشف في الحرية الإنسانية برهان الوجود الإلهي…”.
الله وحده وطن الحرية الإنسانية. منه تستمد وجودها، ولكنها أيضاً إياه تبتغي لأنها به وبه وحده تحقق ذاتها. الحرية دون الله وهم وسراب. هذا ما بقي علينا أن نوضحه تجاه المفهوم السارتري للحرية.
2 – الحرية السارترية مشوهة، مبتورة
إن المفهوم السارتري للحرية يجعل منها المرجع الوحيد للإنسان، فلا أصل لها تستند إليه ولا غاية تتجه نحوها، إنما تخرج من لا شيء وتذهب إلى لا شيء. وبذلك تفقد تلك الحرية كل معنى، ويفقد الإنسان معها معناه، فيصبح، وهو الذي أراده سارتر موجوداً برفض الله، غير موجود بالحقيقة لأن وجوده لا طائل له ولا هدف. وبذلك تكون تلك الحرية قيداً على الإنسان لأنها أغلقت عليه في عزلة مميتة وحصرته في عدمه ولا معناه.
يجعل سارتر من الحرية قوام الوجود الإنساني، ولكن الصحيح أن أعمق ما في الإنسان هو السعي إلى المعنى، إلى اكتشاف معنى لوجوده ولحريته نفسها. لذا نرى موريس مارلو بونتي، وهو قطب آخر من أقطاب الوجودية الملحدة، يؤكد بأن الإنسان محكوم عليه بالمعنى. ويعلق بول افدوكيموف على هذا التأكيد بقوله: “يقول مارلو بونتي، راداً على سارتر: إن الإنسان ليس محكوماً عليه بالحرية، إنما هو محكوم عليه بالمعنى، وهذا يعني أن محكوم عليه بأن يكتشف معنى الوجود، وقبل كل شيء معنى الحرية نفسها”.
لا حرية حقة إذا كان الإنسان أسير اللامعنى. كيف نسمي حراً ذلك الإنسان الضائع، المبعثر، الذي يحيا دون أن يدرك للحياة معنى؟ إن إنساناً كهذا تائه في صحراء، وهل يُعقل أن نسمي التيه في الصحراء حرية؟ يقول الكاتب الفرنسي الكبير أنطوان دي سان اكسوبري: “هل تدعو حق التيه في الفراغ، حرية؟!”
تلك الحرية الجوفاء وصفها لنا الكاتب نفسه – ولم يكن مؤمناً – كمرض من أمراض الإنسانية المعاصرة. فصورها لنا مثلاً في كتابه الرمزي “الأمير الصغير” بشكل مسافرين يتنقلون في القطار من مكان إلى مكان دون هوادة ودون هدف. فعندما يسأ الأمير الصغير عامل السكة الحديدية عن ركاب قطار مر أمامه: “إنهم مسرعون كثيراً. فإلى ما يسعون؟”، يجيب العامل: “إن رجل القاطرة نفسه يجهل ذلك”. وفي إحدى رسائله كتب سان اكسوبري سنة 1943 واصفاً الإنسانية المعاصرة: “أنا مغتم من أجل جيلي، الفارغ من كل جوهر إنساني… أكره زمني من كل قواي لأن الإنسان يموت فيه عطشاً… هناك مسألة واحدة ليس إلا، مسألة واحدة في العالم، ألا وهي أعادة معنى روحي للناس… لم يعد بوسعنا أن نحيا من البرادات والسياسة والميزانيات والكلمات المتقاطعة… لم يعد بوسعنا أن نعيش دون شعر ولون وحب”. إنه في تلك الرسالة، يلاحظ “اليأس الروحي” الذي ينتاب البشر من جراء فقدان معنى وجودهم و”صحراء الإنسان” التي يتيهون فيها، ويقول: “ليس هناك سوى مسألة، مسألة واحدة: أن يكتشف الإنسان من جديد أن هناك حياة للروح أسمى من حياة الفكر نفسها، وأنها وحدها ترضي الإنسان”.
ضياع معنى الوجود عند الكثيرين في أيامنا يفسر إلى حد ما رواج فلسفة سارتر. لقد بين الطبيب النفسي الشهير رودولف الليرس التجاوب القائم بين تلك الفلسفة من جهة وعجز الكثيرين في أيامنا عن معرفة مكانهم في الوجود، من جهة أخرى، وأضاف: “لم يعد البشر يجدون مكانهم لأنهم لم يعودوا يعرفون ما هم. لا يمكن فهم المحدود إلا بالإضافة إلى اللامحدود. الصورة لا تأخذ معناها إلا كانعكاس الأصل. لكي يفهم الإنسان نفسه، يجب عليه أن يدرك من جديد، وبمجموعة كيانه، إنه مصنوع على صورة خالقه ومثاله”.
إن سارتر يرفض بالضبط أن يكون للإنسان هذا المرجع الإلهي، ولذا فالحرية التي ينادي بها محكوم عليها بأن تخبط خبط عشواء. لا يمكنها أن تستنير بقيم لأنها هي مخترعة القيم. لذا، “فسيّان، يقول سارتر، بين ان يسكر المرء وحده أو أن يقود الشعوب”. نعم لقد حاول سارتر أن يبني مناقبية على تلك الحرية المعتبرة مرجعاً لكل شيء، فقال بوجوب العمل على إقامة نظام سياسي واجتماعي يضمن الحرية للجميع، إذ أن الحرية هي أثمن ما في الإنسان. ولكن أسس تلك المناقبية ضعيفة، إذ ما الذي يمنع الحرية، وهي القيمة المطلقة التي لا مرجع لها سوى ذاتها، من أن تختار تأكيد ذاتها عن طريق التسلط واستعباد الغير. ما الذي يمنعها أن تجد نشوتها، إن شاءت، في تحطيم ومحو ذاتها؟ ما الذي يمنعها أن تعتمد سلوكاً لا إنسانياً طالما هي وحدها ترسم، بقرار منها، الحدود بين ما هو إنساني وما هو غير إنساني؟
تلك الحرية الفاقدة المعنى، السائرة على غير هدى، إنما هي عبء لا يطاق على الإنسان، لا لكونها تنافي ميله إلى الراحة والطمأنينة وحسب، كما يبدو لسارتر الذي يعتبر قذراً كل من رفض الحرية التي يبشر بها، بل لكونها تناقض أعمق ما في إنسانية الإنسان، ألا وهو عطشه إلى معنى يقيّم به وجوده، معنى يكشف له من هو وما هو مكانه في الكون. فلا عجب، والحالة هذه، أن يحاول الإنسان التخلص من عبء تلك الحرية بانضوائه تحت لواء مذهب شمولي يستعبد نفسه له كلياً، وبخضوعه الأعمى لزعيم سياسي مؤله، مفضلاً طغيانه وارهابه على ممارسة حرية لا طائل لها ولا هدف. هذا بعض ما يفسر نجاح النازية والفاشية والستالينية في عصرنا. إن سارتر نفسه لم ينج من تلك التجربة كما بين بول افدوكيموف بقوله: “إن هاوية الحرية تثير، بشكل غريب جداً، الدوار والغثيان. وكأن لا بد من دفع ثمن الخداع. هذا ما توقعه دوستويفسكي عندما قال إن الإنسان لن يستطيع أبداً أن يحتمل نير الحرية وأن الماركسية تقدم أقصى الإمكانية للتجرد من هذه الهبة الملوكية. أن سارتر يقر بذلك: “لا أصل لشيء، لا يمكنني فكري من أن أبني شيئاً، إذاً لم يعد من حل سو الماركسية” (نقد العقل الجدلي).
إن الحرية، تلك “الهبة الملوكية”، عبء، على كل حال على الإنسان لأنه ينزع إلى الطمأنينة الرخيصة، ولكنها تصبح زوراً لا يحتمل إذا جردت من معناها كما هو الحال في المفهوم السارتري لها. (هذا ما يسميه افدوكيموف “ثمن الخداع”). إن هذا المعنى وحده ينقذ الحرية من فراغها ويجعل منها حرية أصيلة، لا قيداً يضاف إلى قيود الإنسان. لقد قال الرب يسوع: “ستعرفون الحق، والحق يحرركم” (يوحنا 8: 32). يقابل بول افدوكيموف تلك الكلمة الإلهية بتأكيد مارلو بونتي على ضرورة المعنى للإنسان، ويقول: “حسب الإنجيل، ما يجعل الإنسان حراً هو الحق أي المعنى”.
هذا المعنى الذي لا بد منه كي تكون الحرية أصيلة، لا يتحقق إلا إذا كانت الحرية تعني تحرير الإنسان من كل أغلاله. أن أكون حراً، هذا يعني، في الأعماق، أن أحطم قيودي وأتخلص من محدوديتي وأحقق ذاتي على أكمل وجه. وإلا لاقتصرت الحرية على اختيار قد يسمح لي بشيء من الشعور بالاستقلال ولكنه يفقد الكثير من معناها إذا بقيت جوهرياً أسير عجزي وفراغي. يقول سان اكسوبري: “ما أسميه حرية هو تحريرك”. أما سارتر، “فالحرية التي يتحدث عنها هي مطلق فارغ، إنها محصورة بالاختيار”.
يقول سارتر إن الحرية مرادفة لجاوز الذات المستمر الذي يتميز به الإنسان. ولكن هذا التجاوز مستقطب، وإلا لما كان. الحرية ليست، كما يتصورها سارتر، مجرد رفض لما هو قائم، هذا هو وجهها السلبي فقط. ولكن الإنسان لا يرفض الوضع الراهن إلا بسبب سعيه إلى الأفضل والأكمل. لا وجود لحرية الإنسان لولا المطلق الذي يستقطبها ويعطي لحركتها المستمرة وقلقها الذي لا ينتهي غاية ومعنى. ولكن ما معنى هذا التجاوز للذات، في مفهومه السارتري، الذي هو أفقي محض وممتد من عدم إلى عدم، من العدم الذي يخرج منه الإنسان إلى العدم الذي ينتهي إليه ويتلاشى فيه؟ ما معنى هذا التجاوز للنفس الذي يبقي الإنسان نهائياً على عزلته وشقائه وشروره وفنائه؟ ما معنى هذا التجاوز طالما الإنسان يبقى أسير ذاته وهزالتها؟
ولكن الإنسان لا ينجو من هزالته إلا بالآخر. هذا ما تثبته لنا الخبرة الإنسانية اليومية. الإنسان يكتمل بالحب، عندما يسلم ذاته لآخر عند ذاك يجد نفسه. الرجل والمرأة يكملان أحدهما الآخر في الحب الزوجي الذي يجمعهما، وكما يقول ميللر “في اللحظة التي يكونان فيها منجذبين خارج ذواتهما إلى أبعد حد، باندفاع الحب، في الحياة الزوجية المشتركة، في تلك اللحظة عينها يحس الرجل والمرأة أنهما يبلغان الحرية الحقة”. كذلك يكتمل الرجل بالأبوة – روحية كان أو جسدية – والمرأة بالأمومة، إذا عاشاها في أصالتها المعطاء. لم ير سارتر في الآخر إلا ذاك الذي يسلبني وجودي، ولم يتصور العلاقة بيني وبينه سوى صراع بين عزلتين. ولكن هذه النظرة القاتمة إلى العلاقات الإنسانية لا تأخذ بعين الاعتبار سوى جزء من الواقع. يقول روبير كوفي: “نعلم أن الإنسان، بالرغم من رغبته، لا يستطيع أبداً أن يتغلب على عزلته بشكل تام، ولكننا نعلم أيضاً بالاختبار أن الشركة ولو كانت محدودة وناقصة، تبقى حقيقة واقعية. نظر الأم يوقظ الحياة والحب. نظر الخطيبة والخطيب والزوج والزوجة والصديق يخلق الآخر… إن سارتر لا يشوه الإنسان وحسب، إنما يبدو جاهلاً للوقائع”. خبرة العلاقات الإنسانية، إن لم نبترها بتحيزنا، تعلمنا أن الآخر ليس هو مجرد تهديد لوجودي، إذ إنني به أوجَد. من هذه الخبرة الإنسانية الأصيلة انطلقت الفلسفة المظهرية الحديثة، لتبين “أن الإنسان لا يكتمل كإنسان إلا في الشركة، إلا في الحياة مع الآخرين. عوض “الأنا” يوجد “النحن”، تجاه “الأنا” يوجد “الأنت” ليعطيه معناه. وهكذا يبدو كيف أن إسلام الذات للآخر هو على خط الشخصية والحرية الحقة”.
هذا صحيح بالأحرى بالنسبة لعلاقة الإنسان بالله، إذا كان الإنسان لا يحقق ذاته إلا الآخر الإنساني، فإنه بالأحرى لا يحقق ذاته إلا بذلك الآخر الإلهي الذي منه يستمد كيانه. رفضه الله يعنى انفصاله عن جذور كيانه وينبوع وجوده. في هذا الانفصال لا يجد إلا العدم وحرية زائفة هي حرية العدم، حرية هي بمثابة انتحار كياني. يقول روبير كوفي: “لقد قتل سارتر الله. النتيجة الطبيعة لذلك هو أنه يؤله الإنسان. إنه يأتي من لا شيء ويذهب إلى لا شيء. إنه ليس سوى ومضة في ليل الأشياء. وفي هذا اللحظة الهزيلة التي تدعى الوجود، عليه أن يمثل أمام الإنسان الذي يقاضيه دون ان يعرفه والذي لا يعرف الرحمة والحب”.
“حرية” الزهرة، لو صح التعبير، ليس بأن تستقل عن الجذع فتذبل، بل أن تتصل به صميمياً، لأنها عند ذاك تحقق ملء وجودها كزهرة. كذلك “حرية” السمكة ليست بأن تخرج من الماء الذي يكتنفها، بل أن تبقى ملازمة له. هكذا، يقول شارل ميللر، فالإنسان “يجد حريته الحقة في عودته إلى القوى التي أعطته الحياة والتي تعطيه إياها باستمرار، في العمق”، ولذا “فالعمل الذي به ينفتح الإنسان إلى النعمة هو بمثابة عمل ذاك الذي بعود فيغطس في الماء المحيي. الزهرة المقطوعة تموت إذا بقيت وحدها، أما إذا غطست من جديد في الماء، فإنها تعد زهرة، تعود إلى أصالتها. العمل الذي يقتبل به الإنسان نعمة الإيمان النوارنية ليس سوى ذلك.” من آمن به، يقول يسوع، تجري من جوفه أنهار ماء حي”.
وجود الإنسان مستمد من آخر، وبعبارة أخرى وجوده نعمة، أي عطية حب، يقول الأب دانيالو: “أنا لست موجوداً إلا لأنني محبوب. ولذا أن أوجد يعني بالنسبة لي أن أحب بدوري، أن أجيب على النعمة بالشكر… منذ البدء أدخلت في دورة الحب، دورة النعمة والشكر. لا يسعني أن أنفصل. لأنني إذا انفصلت أدخل في نطاق…. اللامحدود. إنها لمفارقة جديرة بالاهتمام، إنني بقدر ما أريد الاكتفاء بذاتي أهدم ذاتي، فيما أؤكد ذاتي إذا اعترفت بعد كفايتي”.
على الإنسان إذاً أن يعترف بأنه ليس مصدراً ومحوراً لوجوده وأن يدخل في “دورة الحب” التي ذكرنا. عند ذاك يتقبل الوجود عطية حب من ربه، فيحقق ذاته بذلك الحب المحيي ويبلغ إلى الحرية الحقة. ولكن الإنسان قد يرفض ذلك، لأن “شهوته أن يملك ذاته. إنه يكره… أن يقبل بأن ينال كلياً في كل لحظة من آخر…لهذا السبب فإنه، إذا قاده ثقب نظره الماورائي إلى الاعتراف بأن كل خير آت من الله، يرتضي خطيئته، وبأن كل سعادة آتية من الله، يرتضي شقاءه، وبأن كل كينونة آتية من الله، يرتضي عدمه. لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي لديه لرفض الله، إذا كان كل ما هو كائن آتياً من الله وإذا كان قبول الكينونة اعترافاً بعدم الاستقلال”.
إن سارتر يفضل حرية العدم والفراغ على قبول الوجود من آخر عطية حب مجانية. ولا عجب في ذلك، فمن كان كسارتر لا يرى في الحب البشري سوى العبودية والاستعباد، لا يمكنه أن يفقه شيئاً في سر النعمة، لا يمكنه أن يفهم أن اتجاه الله نحو الإنسان، ذلك الاتجاه الذي شبهه الكتاب، في الأنبياء ونشيد الأنشاد وأمثال الإنجيل ورسائل بولس ورؤيا يوحنا، بالحب الزوجي، إن ذلك الاتجاه يمنح وحده الإنسان الحرية الحقة لأنه وحده يمده بطاقة تمكنه من تحقيق ذاته كلياً.
لقد ميز أوغسطينوس المغبوط بين ما دعاه “الحرية الصغرى”، ألا وهي حرية الاختيار، وما سماه “الحرية الكبرى”، وهي الاتحاد بالله. وقد حدد أحدهم الحرية الحقة بأنها” قدرة على الاختيار في خدمة قدرة على الاكتمال”. ذلك هو المفهوم الكتابي للحرية، تلك الحرية التي أعلنها الكتاب على أنها موهبة الله ودعوته للناس: “فأنتم، أيها الأخوة، إنما دعيتم إلى الحرية” (غلاطبة 5: 13)، “لقد حررنا المسيح لكي ننعم بهذه الحرية: فاثبتوا إذاً فيها ولا تعودوا ترتبطون بنير العبودية” (غلاطية 5: 1). ولكن الحرية، في المنظار الكتابي، لا تتحقق إذا شاءت أن تكتفي بذاتها وتنفصل، بل إذا قبلت بأن تدخل في “دورة الحب” المحيية. الحرية، بنظر الكتاب، لا تنفصل عن حياة الشركة، الشركة مع الله والشركة مع الناس التي تترجم وتحقق الأولى. ولذا فالخطيئة، حسب التعليم الكتابي، عدوة الحرية اللدود، لأنها، تحديداً، تلك الاكتفائية القتالة التي بها يفص الإنسان الشركة ينفصل عن ينبوع وجوده وكيانه، فيجف ويذبل ويصبح أسير عدمه وفراغه.
لذا قال الرب: “إن كل من يعمل الخطيئة هو بعد للخطيئة” (يوحنا 8: 34). لذا أيضاً فبعد أن قال الرسول بولس: “فأنتم أيها الأخوة، إنما دعيتم إلى الحرية”، أضاف: “ولكن لا تجعلوا هذه الحرية قرصة للجسد (أي، في لغة بولس، للإنسان المكتفي بذاته، المنفصل)، بل كونوا بالمحبة خداماً بعضكم لبعض” (غلاطية 5: 13). وكأنه يقول: يجب ألا تقودكم حرية الاختيار (وهي “الحرية الصغرى”) إلى الاكتفائية التي بها تزول حريتكم بالمعنى الكامل لهذا العبارة (وهي “الحرية الكبرى”، تحرر الإنسان من هزالته بدخوله في الشركة الإلهية)، تلك الحرية التي لا تتحقق إلا بالحب. الحرية، في الكتاب، هي ثمر الروح الإلهي الذي به يوجد الإنسان بوبه يتحقق ملء وجوده: “الرب هو الروح، وحيث يكون روح الرب، فهناك الحرية” (2كورنثوس 3: 17).
لذا فرفض الأبوة الإلهية يجعل الإنسان في عزلة وفراغ، أما العلاقة البنوية المعاشة بينه وبين خالق فإنها تمده “بمجد الله” أي بزخم الحياة الإلهية التي بها يتحرر من هزالة وضعف وعزلة وشر وموت. تلك هي الحرية التي حددها الرسول بولس على أنها تحرر من “الخضوع للباطل” ومن “عبودية الفساد”، حرية أبناء الله الذين تحرروا، بتلك البنوة عينها، من المحدودية والشر والموت، فأشاعوا تلك الحرية في الكون كله: “إن الخليقة ستعتق، هي أيضاً، من عبودية الفساد إلى حرية مجد أبناء الله” (رومية 8: 21).
هؤلاء الأبناء متصلون بالله دون أن يكون في ارتباطهم الصميمي به أي أثر للعبودية. ذلك لأن الله ليس كياناً غريباً مفروضاً على كيانهم، بل إنهم به، وبه وحده، يجدون ذواتهم. فالله هو الكائن المتعالي كلياً، ولكنه بآن أقرب إلى الإنسان من ذاته، حتى أن الإنسان لا يقترب من ذاته، الأصيلة، محققاً كل طاقاته، إلا بمقدار اقترابه من الله، من ذاك الذي أشار إليه الشاعر الكبير المعاصر بول كلوديل بقوله: “من هو فيّ أكثر أنا مما أنا”.
الخاتمة
فضل سارتر علينا، في نقده للدين، أنه يساعدنا على التحرر من مواقف دينية زائفة كثيراً ما نخلط بينها وبين الإيمان الأصيل. منها مثلاً ذلك الموقف السلبي في الدين الذي يعطل به الإنسان تفكيره ويتخلى عن كل مبادرة، ادعاء منه بأنه يطيع الله، فيما يكون منقاداً انقياداً أعمى للتقاليد وعوائد بشرية تجنته مشقة تحمل مسؤولياته واتخاذ موقف ملتزم، واع.
منها تلك الجبرية التي بموجبها نستسلم لما ندعي أن الله قد “كتبه” لنا، فنلقي هكذا على الله، أو بالأحرى على صنم نطلق عليه ذلك الاسم المعبود، مسؤولية جبننا وخنوعنا وتخاذلنا. ومنها أيضاً تحويلنا الأخلاق إلى مجموعة من الأوامر والنواهي ننقاد لها بشكل سلبي، أعمى، دون أن نعي ارتباطها الصميمي بمتطلبات كياننا العميقة، فنستعيض عن الضمير الحي، الواعي، الدائم اليقظة والانطلاق، بشريعة ملصقة بنا من الخارج، جامدة، مائتة، خائفة، تجنبنا حرفيتها الضيقة قلق الالتزام الحر وتحمينا من الدخول في مجازفة الحب الذي لا يقف عند حد. ومنها تجنب التفكير في أمور الحقيقة الإلهية (ألا يدعي البعض أن الغوص في شؤون الدين كفر؟)، كأن العقيدة الموحاة وجدت لتعفينا من التفكير، لا لتكون ملهمة ومغذية لفكر حيّ خلاق. ومنها أيضاً تلك الاتكالية التي هي صورة كاريكاتورية عن الثقة بالله والتي يحاول بها الإنسان أن يحمي نفسه من مجابهة الواقع ومن صعوبة وخطر النضال في سبيل تغيير أوضاع تنافي الكرامة الإنسانية.
يقول شارل ميللر بأن هناك نوعا ًمن الاتكال على الله هو طريقة للقبول بمصائب الناس وللحصور على طمأنينة رخيصة، بأن هنا عادة خبيثة تدفعنا إلى تشجيع نفوسنا بقولنا أن كل شيء سيجري على ما يرام، ويضيف: “كل شيء يدعوه سارتر سوء نية، ولكن المسيحي يدعوه خطيئة”. إنه خطيئة لأنه هروب وتخدير ونوم واستكانة أنانية جبانة، فيما تطلب المحبة منا يقظة وشجاعة ومجابهة والتزام: “يسوع في نزاع إلى منتهى الدهر، لذا لا ينبغي أن ننام في هذا الوقت.”
المسيحية، في أصالتها، بعيدة عن الاستكانة بعد السماء عن الأرض. يقول ميللر: “…. إن نعمة الله لا تطالنا (كما يتصور سارتر) بشكل دعوة للاستقالة والانقياد. إنها تدخل فينا بمثابة سيف، تمنعنا من النوم، تلزمنا على يقظة غير منقطة، المسيحي هو الساهر في “ليلة الفصح”، تلك الليلة التي لا ينبغي النوم فيها، إذ يجب ترقب “عبور الرب”.
المسيحية انطلاقاً لا نهاية لها لأنها اندماج الإنسان في الحياة الإلهية التي لا حد لها. من عرف الله حقيقة لا يمكنه أن يقف عند حد، لا يمكنه أن يرضى عن ذاته في حال من الأحوال، بل يحقق ذاته بتجاوز مستمر لذاته. كلما حالو الإنسان الاقتراب من الله، كلما ازداد شعوره ببعده عن ذلك الكائن اللامتناهي الذي يدعوه، وكلما ازداد بالتالي قلقه واشتياقه. هذا ما اختبره بنوع خاص كبار الروحيين: فقد تحدث غريغورس النيصصي مثلاً ذلك الخروج اللامتناهي من الذات نحو غور الله الذي لا يسبر عمقه.
“لقد وصف غريغوروس النيصصي وصفاً بديعاً ذلك اليأس الذي يعتري النفس الساعية إلى الله، التي ترجو في البدء أن تمسكه كله وتغتم لأنها تراه يفلت منها دوماً. ولكن “حجاب الحزن هذا ينزع عنها عندما تتعلم أن التمتع بالمحبوب هو بالضبط في هذا التقدم والارتقاء الدائمين، إذ أن الرغبة تلبى في كل لحظة فتنشئ رغبة بما لم يبلغ بعد” (تعليق على نشيد الأنشاد). هكذا فالنفس التي تنمو في حياة النعمة يملؤها الله دوماً على قدر طاقتها ولكن النعمة المعطاة لها توسع طاقتها وتجعلها قابلة لنعم جديدة. هكذا فالخبرة الصوفية قوامها امتلاك ورغبة بآن… إنها، يقول غريغوريوس، حركة وراحة، بئر مياه حية، ساكنة ومتفجرة بآن”.
يقول النيصصي: “حيث أن الجمال المطلق يكشف ذاته أكثر فأكثر، فعلى قدر التقدم يزداد اكتشاف الألوهة. وبسبب الغزارة الفائقة، غزارة الخيرات التي تكتشفها النفس باستمرار فيما يفوق الطبيعة، يبدو لها أنها لم تزل في أول ارتقائها. لذا يردد الكلمة لتلك التي سبقت فنهضت: “انهضي” ولتلك التي سبقت فأنت: “تعالي”. فإن الذي ينهض حقيقة عليه أن ينهض أبداً، والذي يركض نحو الرب لن يعوزه أبداً الفضاء الواسع ليتابع فيه جريه الإلهي. لأنه ينبغي للمرء أن ينهض دوماً وألا ينقطع أبداً عن الاقتراب ركضاً. لأن الذي يقول: انهض وتعال، يمنح فيك كل مرة نعمة ارتقاء أفضل”، وأيضاً: “والذي يرتقي لا يتوقف أبداً، بل ينطلق من يده إلى بدء، ماراً ببداءات لا تنتهي أبداً”.
الحياة الروحية خروج مستمر، السلاح دائم عن الذات تتحقق به الذات، لأنه انسلاخ عن محدوديتنا، كما أن النمو الطبيعي انفصال مستمر عن الأوضاع القديمة وحدودها لبلوغ حياة أوفر وأكمل. ليست محافظة شحيحة، خائفة، على كياننا، بل هي قبول بأن يضيع هذا الكيان لكي يوجد: “من أراد أن يخلص نفسه أضاعها، ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها” (متى 16: 25). إنها خروج دائم للنفس من ذاتها لتجد ذاتها في من هو أعظم من ذاتها، كما قال أوغسطينوس: “لقد أخرجت نفسي، سكبت نفسي خارج ذاتها، إن بقيت نفسي في ذاتها لا تستطيع أن تجد إلا ذاتها”.
إنها فصح دائم، والفصح يعني عبوراً واجتيازاً، يعني اقتبالاً لصليب الانسلاخ الدائم عن “الإنسان القديم” (كولوسي 3: 9 ورومية 6: 6) المكتفي بذاته، المرتاح إلى حدوده (كما كان العبرانيون مرتاحين إلى عبودية فرعون، يحنون إليها) لكي نفسح مجالاً (لجدة الحياة) (رومية 6: 4 تتفجر فينا وتحولنا. هذا ما عناه الأرشمندريت الياس مرقص بقوله: “الحياة الروحية حركة فصحية نحو الله والآخرة” ، وقد كتب أيضاً بهذا الصدد: “نحن نطلب الحياة والحياة لنا هي بالضبط تلك الحركة الاشتياقية اللانهائية حو مصدر الوجود”، وأيضاً: “الله فيّ، في الداخل، في الطبيعة نحن لا محدودون كالله، مخلوقون على صورة لا محدودية الله. ولكن الله غير محدود “فعلاً” أما نحن فبالمصير. الوهتنا أن نتحول، أن نصير الله على الدوام. إن كوننا نتغير – نصير – يعطينا أجنحة على حد قول غريغوريوس النزينزي، وهذا مصدر كياننا. إن الخلق لا يزال جارياً بالنسبة لنا وسيزال إلى الأبد. نحن ننال أنفسنا كل لحظو من الله. “أبي حتى الآن يعمل”…
“…. الخروج من الذات هو بالنتيجة رجوع إلى الذات، إلى الروح العميقة التي في الذات تدعونا إلى الآب…”.
أين هذه الحياة الروحية المتحركة دوماً في تجاوز للذات لا متناه من الاستكانة والنوم اللذين يبدوان لسارتر جوهر التدين. غريب حقاً كون سارتر لم يستطع أن يميز بين الحياة الدينية الأصيلة وانحرافاتها. و”كأنه يقول ميللر، لم يقرأ أبداً نصاً انجيلياً واحداً، كتاباً واحداً لأحد الصوفيين”.
يعتقد سارتر أن نظر الله يسمر الإنسان، يجمده، يحول بينه وبين هذا التجاوز المستمر لذاته الذي هو مرادف لوجوده الإنساني الأصيل. هذا ما يبدو مثلاً في رواية “سبل الحرية” حيث نرى دانيال، وهو منحرف جنسياً، يحاول أن يتخلص من مسؤوليته، فيتجه إلى الله ويتصوره “نظراً محدقاً إليه”، فيقنع نفسه بأنه، كما أن الإنسان بنظره إلى الطاولة يحددها على أنها طاولة، ولا يسعها هي إلا أن تتقبل هذه التحديد، هكذا فالله بنظره إليه يحدده على أنه منحرف، على أن هذه طبيعته، ولم يبق له إذاً سوى تقبل هذا التحديد والعمل بموجبه دون أية مسؤولية. “ولكن المؤمن الأكثر فتورة، يقول ميللر، يعلم جيداً أن “نظر الله” هو نظر حب؛ وأنه، عوض أن يجمدنا، دعوة لنا، ضربة سيف تنفذ إلى مفصل النفس والروح لتعيد إلينا شعورنا بالمسؤولية، لتوقظ فينا حرية ماتت بالخطيئة”. هذا النظر الإلهي تجلت لنا نوعيته في يسوع المسيح.
يروي لنا الإنجيلي مرقص أن إنساناً أتى إلى يسوع سائلاً عما يجب أن يعمله ليرث الحياة الأبدية، “فحدق إليه يسوع، وأحبه؛ وقال له: “أمر واحد ينقصل: امض وبع كل ما لك، وأعطه للفقراء، فيكون لك كنز في السماء؛ ثم تعال اتبعني” (مرقص 10: 20). هكذا كانت نظرة يسوع إلى هذا الشاب؛ نظرة الحب الذي يوقظ المحبوب إلى حياة أوفر وأغنى، ويفتح أمامه آفاقاً لا حد لها، آفاق تحقيق ملء الوجود بتجاوز كل امتلاك، لأن الإنسان مملوك مما يملكه، اسير ممتلكاته وخيراته التي تشده إليها وتحصره فيها وتحول دون تفجر طاقة الحب التي بها، وبها وحدها، يحيا ويحقق ذاته.
قضيتنا مع الله ليست أنه يريد تقييدنا وتجميدنا فيما نحن نثور لندافع عن حريتنا المهددة. الواقع هو العكس تماماً. فهمّ الله أن يوقظنا إلى أبعد حد؛ دعوته الدائمة إلينا أن نتجاوز ذواتنا لانهائياً بتلك الحياة الإلهية، حياته، التي يبثها فينا إن شئنا أن نتقبلها. همه أن يعطينا ذاته لكي نتجاوز كل الحدود ونصبح آلهة، وبذلك نصبح حقيقة أحراراً. الله طموح بالنسبة إلينا فوق ما نستطيع أن نتصور: “ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه” (1كورنثوس 2: 9). ولكننا نحن نرهب هذا الطموح. ذلك أن الحرية الحقة هي تحرر من محدوديتنا، أما نحن فنطمئن إلى حدودنا، لا نريد أن نتغير جذرياً، لا نريد أن نتجاوز حدود هذا الأنا الضيق المألوف الذي نرتاح إليه، لا نريد أن نتسع إلى اللانهاية.
نرهب الحرية لأنها مقلقة، خطرة، كمن يبقى على الشاطئ لأنه لا يجرؤ على خوض عرض البحر واكتشاف عوالم جديدة. نحن في النهاية نرفض الله أو نستعيض عنه بصنم ندعو باسمه (وهذا أيضاً مظهر من مظاهر الرفض)، لأننا نرفض الحرية التي يدعونا إليها، تلك الحرية التي هي بآن انسلاخ جذري عن الذات. وتحقيق للذات بما يفوق الوصف. نرفض الله لأننا نخاف أن نتحول إلى آلهة. هذا ما عبر عنه الأب جان كاردونيل بقوله:
“الله لا يسلمنا هدية. إنه لا يعطينا شيئاً ما، لأن في ذلك ترفعاً، الله يعطينا شخصاً، وهذا الشخص هو شخصه. الله يعطي ذاته. في الصداقة، لا يعطي المرء شيئاً ما، ولكن شخصاً هو شخصه. كثيراً ما يكون إعطاء شيء تعبيراً عن عجز جذري عن إعطاء الذات. لذا فالله يسعى إلى الحوار معنا. الله يريد آلهة.”
“ولكن كوننا مخلوقات تود أن تبقى هكذا لتكون في اطمئنان، يجعلنا نرهب مصيرنا كآلهة. فنشك في كلية عطاء الله. ننسب لله نية مبينة، فنصور أنه لا يهبنا إلا جزءاً من مجاله ويحتفظ بالقس المفضل من ملكه.”
“الله يريد نفسه صديقاً لنا. يسعى إلى حوار الصداقة، اما نحن، فننتظر بكسل أوامر ننفذها. الله يكلمنا كصديق ونحن نجيبه كرعايا….”
“كثيراً ما يتصور المرء الله كأنه الصانع الأسمى. ولكن الله لا يصنعنا، إنه خالقنا. إنه يخلقنا بعدوى كيانية. ينظر إلينا نظرة صداقة، نظرة طموح. إنه يدعونا لنكون، ولتزداد دوماً كينونتنا.”
“الله لا يسيطر علينا، الله يوقظنا….”
“…. الله هو الرب بمعنى أن الموقظ الأسمى. إن مجده يشع ويسطع بقدر ما يكون الناس أكثر بلوغاً ورشداً. الله هو الله بقدر ما يكون البشر بشراً….”
خلاصة القول إن سارتر كان مصيباً في مطالبته بحرية الإنسان، في دعوته إلى نبذ كل خنوع وتخاذل واستكانة وإلى تحرير الوجود الإنساني من التبعية الطفيلية ليصبح جديراً ببالغ يتعهد مصيره تعهداً مسؤولاً. لقد كان مصيباً في تشهيره لكل مظاهر التدين الزائف التي تتخذ الله ذريعة للتهرب من المسؤولية والاقدام والالتزام. لكن الالتباس المريع القائم في فكره حول نوعية علاقة الله بالإنسان، والذي غذته بلا شك تلك المظاهر الزائفة للدين التي ذكرناها، قاده إلى رفض الله وبالتالي إلى بتر الحرية نفسها وتشويهها. قد ردها إلى مظهرها السلبي، جعل منها قدرة على الرفض وحسب، وأفرغها من مضمونها، شأنه في ذلك شأن المراهق الذي يعجز عن تجاوز العناصر السلبية في ثورته ليجعل من تلك العناصر مرحلة في بناء نفسه والكون.
إن الحرية السارترية ترفض، تعارض، تنقد، تهدم، ولكنها لا تستطيع أن تبني شيئاً. إنها أسيرة فراغها. الله وحده يحرر الحرية، شرط أن نعرفه على حقيقته، لا كما تتصوره أهواءنا بل كما كشف ذاته لنا في يسوع المسيح، لا طاغية ومستبداً كجوبيتر “الذباب” بل عطاء كلياً وانعطافاً غير متناه، لا ملغياً وجودنا بل مؤكداّ له بإمداده من وجوده، لا مبطلاً حريتنا بل داعياً إيانا إلى الاشتراك في حريته بالتأله. عند ذاك، إذا عرفنا أبوة الله، لا تبعية خانقة بل علاقة محيية، موقظة، محررة، استطعنا أن نجمع إلى شدة البالغين (“لا تكونوا اطفالاً مضطربين….”، “كونوا رجالاً، تشددوا….” يقول الرسول) تلك الطفولة الروحية التي يدعو إليها الإنجيل (“إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السماوات”) والتي هي موقف تقبل كياني وانفتاح بي وإسلام حر لذاك الذي به وحده نحقق ذواتنا لأنه أقرب إلينا من ذواتنا.