Monday 22 February 2016

سفر يونان في أقوال آباء الكنيسة










سفر يونان في أقوال آباء الكنيسة




يونان النبي تحت اليقطينة





يُعتبر سفر يونان من أساسيات مراجع التفسير عند آباء الكنيسة، وذلك بسبب ما أشار إليه الإنجيل من أقوال الرب يسوع عنه (مت 12: 40-41؛ لو 11: 29-32).
ففي الإنجيل، أشار الرب يسوع إلى توبة أهل نينوى (وهم من غير اليهود، أي من الأُمم)، أشار إليها لكي يُبيِّن لليهود الذين رفضوا رسالته عِظَم رحمة الله على كل الأُمم. وباختصار، كان غرض آباء الكنيسة أيضاً أن يُظهروا المسيح على أنه يونان الجديد الذي أكمل بل وتفوَّق على العهد القديم، وهذا ما سُلِّم إلى أهل نينوى الجُدُد، أي الأمم.


وينبغي أولاً أن نحذِّر في تناولنا للتشابه بين يونان النبي والرب يسوع، فهناك محدودية لهذا التشابه. يقول القديس كيرلس الكبير بهذا الصدد:


[ إذا أخذنا يونان كمثال للمسيح، فينبغي أن نتنبَّه أنه ليس هكذا من كل النواحي(1). لأنه أُرسل ليكرز لأهل نينوى ولكنه هرب من وجه الرب (يون 2:1-3). أما الابن فقد أُرسل من الله الآب ليكرز للأمم ولكنه لم يُظهر عدم الرغبة في أخذ هذه الخدمة.


وبالنسبة للنبي يونان فإنه طلب من النواتية أن يلقوه في البحر، حيث ابتلعه الحوت ثم بعد ثلاثة أيام أُعيد إلى البَر، ثم ذهب إلى نينوى وأكمل الخدمة. ولكنه أبدى مرارة فوق العادة حين أظهر الرب رحمةً بأهل نينوى. المسيح خضع بإرادته للموت، وبَقِيَ في بطن الأرض، ثم عاد مرة أخرى للحياة، وبعد ذلك ذهب إلى الجليل وأمر أن يُبشَّر الأمم بالإنجيل؛ ولكنه لم يحزن حين رأى الذين دُعوا للمعرفة أنهم خلصوا. وهكذا، مثل النحلات في الحقل التي ترفرف بجناحيها حول الأزهار، وتجمع ما هو مفيد ونافع لمؤونة خلاياها؛ هكذا نحن أيضاً، حين نبحث في الكتب المقدسة المُلهَمة بالروح، ينبغي دائماً أن نجمع ونوازن بين النصوص فيما هو كامل، لنفسِّر أسرار المسيح ونشرح الكلمة كاملاً](2).


+ «قُمْ اذهب إلى نينوى... فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب» (يونان 1: 3،2):


يشرح القديس غريغوريوس اللاهوتي، من واقع خبرته الشخصية، خوف يونان وهربه:


[ يونان أيضاً هرب من وجه الرب، أو بالحري، ظن أنـه يهرب. ولكن البحر ابتلعه، والعاصفة، والقُرعة، وبطن الحوت، والاختفاء ثلاثة أيام في بطن الحوت؛ كل هذه كأنها سرٌّ عظيم. هرب من أن يُعلِن العقاب المُرسَل بالمناداة على أهل نينوى للتوبة («قد صعد شرُّهم أمامي» - عدد 2) وخاف من أن يُتَّهم بالكذب، إذا حدث أن نجت المدينة بواسطة التوبة. ليس الأمر أنه كان غير مسرور لخلاص الأشرار، بل لأنه كان خَجِلاً من أن يكون أداة الكذب، وبالأكثر كان غيوراً جداً على ماهية النبوَّة، والتي كانت في خطر أن تتهاوى في شخصه. وبالحق فإن الكثيرين في هذه الحالات يكونون غير مستطيعين أن يُدركوا عمق التدبير الإلهي](3).


خطة يونان للهرب تفشل (1: 4-17):


يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:


[ في محاولة النواتية للتخفيف من حمولة السفينة، أثبتوا أن أثقل الأحمال جميعاً كان هو ”عدم طاعة يونان“... ليس شيء أثقل أو أكثر إرهاقاً من أحمال الخطية وعدم الطاعة](4).


ربان السفينة:


يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن السفينة كانت تحتاج إلى ربان أفضل، فيقول:


[ لقد فَهِمَ ربَّان السفينة من خبرته أنَّ العاصفة كانت غير عادية، وأن الريح كانت مُرسَلة من قِبَل الرب، وأن موجات البحر العالية كانت أعظم من الفكر البشري، وأن القوة العضلية للنواتية صارت بلا فائدة. في هذه الحالة كان هناك احتياج إلى ربَّان أعظم: الواحد الذي يحكم العالم كله، وكانت الحاجة إلى معونة من العُلى ضرورة ملحة. لأجل هذا ترك النواتية القلاع والحبال وكل شيء، وعادوا بأيديهم إلى نفوسهم ورفعوها إلى السماء وتوسَّلوا إلى الله](5).


إلقاء يونان في البحر (1: 15):


يرى العلاَّمة جيروم أن السفينة كانت تمثِّل البشرية كلها، وإلقاء يونان كان هو الحَل لإعادة الهدوء لاضطراب العالم، فيقول:


[ النص لا يُخبرنا أن النواتية قبضوا على يونان بل إنهم ”أخذوه“ كإنسان ينبغي أن يُحترم ويُوقَّر. وسلَّموه إلى البحر، ليس بمُقت أو كُره أو اشمئزاز؛ بل هو أخضع نفسه بكامل إرادته إلى أيديهم. فتوقف البحر عن هيجانه لأنه وجد ما كان يبحث عنه... إذا نظرنا إلى الزمن فيما قبل آلام المسيح، سنرى أنه يُشبه إنساناً حزيناً على أخطاء الدنيا وأفكار الناس الطائشة. كانت سفينة البشرية، أي خليقة الله، في محنة؛ ولكن بعد آلام المسيح، ها العالم وقد ساده هدوء الإيمان، عالم به سلام وأمان لكل أحد. إنها العودة إلى الله. بهذا نفهم لماذا بعد أن أُلقِيَ يونان إلى البحر سكن عن هيجانه](6).


صلاة يونان (2: 1-2):


يكتب القديس باسيليوس الكبير في رسالة له عن أن يونان النبي أظهر الإيمان في وسط المحنة فيقول:


[ لأن الرب القدوس قد وعد هؤلاء الذين بحثوا عن وسيلة للهرب من هذه الضيقة، هكذا نحن أيضاً، حتى ولو كنا مقطوعين في وسط بحار الشر، ونُعذَّب من الأمواج العالية الهائجة علينا من الأرواح الشريرة؛ هكذا نحتمل لأجل المسيح الذي يقوِّينا. ونحن لا نتراخى في غيرتنا على الكنائس، وحينما تعلو أمواج العاصفة، يجب أن لا نتوقع الهلاك؛ بل نظل نتمسك بكل ما أوتينا من قوة بجهادنا. واضعين في الاعتبار أن الذي ابتلعه الحوت حُسِبَ، أهلاً للحماية لأنه لم ييأس من حياته، بل صلَّى باكياً إلى الرب. وهكذا نحن أنفسنا لا نيأس من رجائنا في الرب، بل نتوقع وننتظر عونه في كل الأحوال](7).


عودة يونان إلى البَر:


يصف العلامة ترتوليان يونان النبي أنه رمز للقيامة، فيقول:


[ ابتلع وحش الأعماق (يقصد الحوت) يونان النبي، وبعد ثلاثة أيام تقيأه مرة أخرى سالماً. أخنوخ وإيليا، وهما حتى الآن دون أن يريا قيامة (لأنهما لم ينالا موتاً)، قد تعلَّما كيف يُستثنى الجسد من كل إذلال وكل خسارة وكل إصابة وكل خزي أو عار. فقد انتقلا من هذا العالم، ومن هذا المنطلق يكونان حقاً المرشحَيْن للحياة الأبدية (تك 5: 24؛ 2ملوك 2: 11). فإلي أي إيمان تشهد هذه الأحداث، إن لم يكن لهذا الذي ينبغي أن يحث فينا الإيمان أنهم الدليل والبرهان على مستقبلنا وقيامتنا الكاملة. وهنا نستعير عبارة الرسول (بولس) حين قال إنهم «مثالاً لنا» (1كو 10: 6)](8).


ويرى القديس إيرينيئوس أن الله أنقذ يونان بحفظه هكذا حتى خرج سالماً من بطن الحوت. وكتب بهذا الصدد:


[ إن كان أحد يتخيل أنه من المستحيل أن يبقى أُناس هكذا لمدة هكذا تطول، أو يظن أن إيليا لم يُمسَك في الجسد بل قد احترق الجسد في المركبة النارية؛ فليعتبروا جيداً أن يونان، حين أُلقِيَ إلى العمق وابتُلع في بطن الحوت، قد خرج سالماً إلى الأرض بأمر من الله](9).


كرازة يونان بالتوبة (3: 1-4):


+ «وقام يونان وذهب إلى نينوى بحسب قول الرب، ... ونادى وقال: بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى» (يونان 3: 4،3 حسب السبعينية):


يعتبر القديس أغسطينوس كرازة يونان أنها كرازة بالتوبة. اسمعه يقول:


[ لماذا إذن نُسأل عمَّا يرمز إليه النبي الذي ابتلعه الحوت وأُعيد إلى الحياة في اليوم الثالث؟ المسيح شرح ذلك حين قال إن جيلاً شريراً وفاسقاً يطلب آية ولا تُعطَى له إلاَّ آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، هكذا ينبغي أن يبقى ابن الإنسان في باطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال (مت 12: 39-40). وهكذا كما ذهب يونان من السفينة إلى بطن الحوت (يونان 1: 15)، هكذا ذهب المسيح من الخشبة إلى القبر، أي إلى جُبِّ الموت. وكما كان يونان فدية عن هؤلاء الذين في العاصفة، هكذا افتدى المسيح هؤلاء الغرقى في عاصفة هذا العالم. وكما أُمِرَ يونان أولاً أن يُبشِّر أهل نينوى، ولكن نبوَّته لم تصل إليهم حتى قذفه الحوت خارجاً، هكذا لم تصل النبوَّة إلى الأمم إلاَّ بعد قيامة المسيح](10).


ولنسمع ما قاله القديس يوحنا ذهبي الفم عن هذا الأمر:


[ «وصار قول الرب إلى يونان (بن أمتَّاي) قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة» (يونان 1:1). لقد أراد أن يُخجل يونان بإرساله إلى المدينة العظيمة نينوى، لأنه سبق فرأى هرب النبي. ولكن لنسمع أيضاً البشارة: «بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى». لماذا يا رب تُخبر عن الآلام التي ستَبتلي بها نينوى؟ ”حتى لا أفعل ما أعلنتُ“. هذا هو السبب أن الله أنذر بالجحيم، حتى لا يُطرح أحد إلى الجحيم. يقول سفر أيوب: «خَفْ ممَّا يُقال لك، ولا تحزن مما يحدث» (أيوب 5: 21 حسب السبعينية). ولماذا حدَّد وقتاً هو فقط ثلاثة أيام؟ حتى تتعلَّم من فضيلة البرابرة، فأنا أُطلق على أهل نينوى اسم برابرة، هؤلاء الذين استطاعوا أن يوقفوا في ثلاثة أيام هذا الغضب الذي سبَّبته الخطية. أريد أن تتعجبوا من محبة الله للبشر، الذي اكتفى بثلاثة أيام توبة عن كل هذه التعدِّيات. لا أُريدكم أن تغرقوا في اليأس، رغم أن لكم خطايا لا تُعدُّ](11).


توبة أهل نينوى (3: 5-10):


في توبة أهل نينوى تحذير وضعه القديس غريغوريوس اللاهوتي أمام سامعيه هكذا:


[ فلن‍زرع بالدموع لنحصد بالابتهاج (مز 5:126). فلنُظهر أنفسنا أننا من أهل نينوى وليس من أهل سدوم (تك 19: 23،17). فلنُضمِّد جراحنا لئلا تفنينا. فلنستمع إلى كرازة يونان لئلا نؤخذ بالنار والكبريت](12).


+ «فقام عن كرسيِّه وخلع رداءه عنه وتغطَّى بمسحٍ وجلس على الرماد» (يونان 6:3):


أليس هذا مثالٌ جيد للقيادة؟ نذكر هنا ما قاله القديس أغسطينوس:


[ إن الحاكم يخدم الله من جهته كإنسان، وكذلك من جهته كملك. فمن جهته كإنسان يخدم الله ويحيا حسب الإيمان. أما من جهته كحاكم فيخدمه كملك بأن يبذل الجهد الضروري لسنِّ القوانين التي تأمر بالصلاح وتُحرِّم الشر. فعلى هذا النحو خدم الملك حزقيَّا الرب، فقطَّع السواري وكسَّر التماثيل وأزال المرتفعات التي أُقيمت ضد وصايا الله (2ملوك 18: 4). ويوشيَّا أيضاً خدمه حين صنع مثل تلك الأعمال (2ملوك 23: 20،4). وهكذا فعل ملك نينوى حين أخضع كل المدينة لكي تُرضي الرب](13).


+ «وليتغطَّ بمسوح الناس والبهائم ويصرخوا إلى الله بشدة» (يونان 8:3):


يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:


[ أهل نينوى استفادوا من دواء الصوم، وفازوا أمام الرب بتأجيل الحُكْم. البهائم مع الناس صاموا، حتى أن كل الكائنات الحية صارت تكفُّ عن الأفعال الرديئة. هذه الاستجابة الجماعية فازت برضا إله الكل](14).


+ «وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة» (يونان 4: 5):


في تفسيره لسفر يونان، يرى القديس كيرلس الكبير أن يونان توقَّع هلاك نينوى، فيقول:


[ مضت الأيام التي قيل إن تلك الأمور ستحدث فيها، بينما غضب الله لم يأخذ مجراه، ففَهِمَ يونان أن الله تحنَّن على نينوى. وحتى هذا الوقت لم يفقد الرجاء (في تحقيق قول الرب إنه سيهلك المدينة)، وظن أن هناك تأجيلاً للحُكْم أعطاه الله لهم حين رأى إرادتهم (الظاهرة في أعمالهم) للتوبة، لكن خاف أن يأتي بعض من هذا الغضب، حيث إن أتعاب توبتهم لا تكفي تعدِّياتهم. وإذ فكَّر هكذا في نفسه، ترك المدينة وانتظر ليرى ما يحدث لهم. ويبدو أنه توقَّع إما أن تسقط بهزَّة أرضية، أو تُحرَق بالنار مثل سدوم](15).


أما القديس أغسطينوس فيقول:


[حين صنع يونان لنفسه مظلة وجلس خارج مدينة نينوى، منتظراً أن يرى ما يحدث لها، فقد اتخذ النبي موقفاً ذا معنىً مختلف. كان رمزاً لشعب إسرائيل الزمني، لأنه كان حزيناً على الحفاظ على أهل نينوى! كان محبطاً من فداء وخلاص الأمم! ولكن جاء المسيح لكي يدعو «ليس أبراراً بل خطاة إلى التوبة» (لو 5: 32). أما ظِلُّ اليقطينة على رأسه فكان رمزاً لوعد العهد القديم. فإن ناموس العهد القديم قد استُعلن، كما قال الرسول: «ظِل الأمور العتيدة» (كو 2: 17؛ عب 10: 1). لقد أقام الله ظلاًّ واقياً من حرارة الشرور الوقتية في أرض الموعد. ولكن الدودة جاءت في الصباح، وأكلت اليقطينة وأجهزت عليها كلها. لأن البشارة السارة حين انتشرت بفم المسيح، ذبلت كل تلك الأمور (أي الشرور والطرق الرديئة والظلم) وذويت. كان الظل يرمز إلى الغِنَى الزمني للإسرائيليين. ولكن الآن فَقَدَ هذا الشعب مملكة أورشليم وكهنوتهم والذبيحة. كل هذا كان ظِلاًّ للمستقبل. لقد تشتتوا بعيداً في أسرٍ وتألموا بسيل من الآلام، تماماً كما تألم يونان بشدة من حرارة الشمس، كما هو مكتوب. ولكن خلاص الشعوب التائبة هو أفضل من ألم يونان ومن الظل الذي أحبه](16). +







(1) يونان هو تصوير رمزي ونبوي للمسيح، فقط في بعض نواحي أعماله؛ مثل مكوثه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في بطن الحوت، رمزاً لبقاء المسيح ثلاثة أيام في القبر.
(2) Fragment 162
(3) Oration 2.106.
(4) Homilies on Repentance & Almsgiving 3.8.
(5) Ibid.
(6) Commentary on Jonah 1.15.
(7) Letter 242.
(8) On the Resurrection of the Flesh 58.
(9) Against Heresies 5:5:2.
(10) Letter 102.6.
(11) Homilies on Repentance & Almsgiving 5.4.
(12) On His Father's Silence, Oration 16.14.
(13) Letter 185.5.19.
(14) Homilies on Genesis.
(15) Commentary on Jonah 4.5
(16) Letter 102.6.

التعليقات
0 التعليقات

0 comments:

Post a Comment

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
;